سر إعجاز القرآن الكريم  حماد القباج

قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى[1]: “فإن قيل: ما وجه إعجاز القرآن؟

قلنا: الجزالة والفصاحة، مع النظم العجيب والمنهاج الخارج عن مناهج كلام العرب في خطبهم وأشعارهم وسائر صنوف كلامهم.

والجمع بين: هذا النظم وهذه الجزالة؛ معجزٌ خارج عن مقدور البشر.

نعم؛ ربما يُرى للعرب أشعارٌ وخطب حكم فيها بالجزالة، وربما ينقل عن بعض من قصد المعارضة مراعاة هذا النظم بعد تعلمه من القرآن، ولكن من غير جزالة بل مع ركاكة كما يحكى عن ترهات مسيلمة الكذاب حيث قال: (الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وخرطوم طويل).

فهذا وأمثاله ربما يقدر عليه مع ركاكة يستغثها الفصحاء ويستهزؤون بها.

وأما جزالة القرآن فقد قضى كافة العرب منها العجب، ولم ينقل عن واحد منهم تشبث بطعن في فصاحته، فهذا إذاً معجز وخارج عن مقدور البشر من هذين الوجهين؛، أعني من اجتماع هذين الوجهين.

فإن قيل: لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن ولو قصدت لقدرت عليه، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به.

والجواب أن ما ذكروه هَوَسٌ؛ فإنّ دفْعَ تحدي المتحدي بنظم كلامٍ، أهونُ من الدفع بالسيف؛ مع ما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي وشن الغارات.

ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات، فلو قال نبي: (آية صدقي أني في هذا اليوم أحرك أصبعي ولا يقدر أحد من البشر على معارضتي).

فلم يعارضه أحد في ذلك اليوم؛ ثبت صدقه، وكان فقد قدرتهم على الحركة مع سلامة الأعضاء من أعظم المعجزات.

وإن فُرض وجودُ القدرة؛ ففقد داعيتهم وصرفهم عن المعارضة من أعظم المعجزات، مهما كانت حاجتهم ماسةً إلى الدفع باستيلاء النبي على رقابهم وأموالهم، وذلك كله معلوم على الضرورة. فهذا طريق تقدير نبوته على النصارى، ومهما تشبثوا بإنكار شيء من هذه الأمور الجليلة فلا تشتغل إلا بمعارضتهم بمثله في معجزات عيسى عليه السلام”.

قال العلماء: “ونفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب؛ فإنه ليس من جنس الشعر والرجز، ولا الرسائل والخطابة، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس، عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته عجيب خارق للعادة وليس له نظير في كلام جميع الخلق -يعني من لدن آدم وإلى الآن- وهذا نهاية الإعجاز، وبالله التوفيق”.

لماذا عجزوا عن رفع التحدي؟

قد يتساءل القارئ قائلا: عدمُ إتيان الإنسان بمثل القرآن؛ هل هو لاستحالة ذلك؟ أو لأن الله صرف الإنسان عنه؟

يرى بعض علماء القرآن[2] بأن البشر وسائر الخلق؛ ليس في وسعهم ولا في أصل خلقتهم وجبلتهم القدرة على أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن العظيم، والذكر الحكيم، فإنه معجزة في نفسه؛ فليس في وسع الخلق: القدرة على مضاهاته.

وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه الوفاء: “وكان المرتضى العلوي يقول بالصرفة؛ يعني أن الله تعالى صرف العرب عن الإتيان بمثله؛ لا أنهم عجزوا.

قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: “الصرف على الإتيان بمثله دال على أن لهم القدرة حاصلة، وإن كان في الصرف نوع إعجاز إلا أن كون القرآن في نفسه ممتنعا عن الإتيان بمثله لمعنى يعود عليه، آكد في الدلالة، وأعظم لفضيلة القرآن.

قال: “وما قول من قال بالصرفة إلا بمثابة من قال بأن عيون الناظرين إلى عصا موسى عليه السلام خيل لهم أنها حية وثعبان، لا أنها في نفسها انقلبت.

قال: فالتحدي للمصرف عن الشيء لا يحسن كما لا يتحدى العجم بالعربية”.

قال الحافظ بن الجوزي: “وأنا أقول إنما يصرفون عن الشيء بتغير طباعهم عند نزوله أن يقدروا على مثله، فهل وجد لأحد منهم قبل الصرفة منذ وجدت العرب كلاما يقاربه مع اعتمادهم على الفصاحة؟

فالقول بالصرفة ليس بشيء.

وقال شيخ الإسلام في (الجواب الصحيح): “كل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن حجة على إعجازه، ولا تناقض في ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.

ثم قال: “ومن أضعف الأقوال من يقول من أهل الكلام إنه معجز بصرف الدواعي مع قيام الموجب لها، أو بسلب القدرة الجازمة، وهو أن الله تعالى صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام، أو سلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبا عاما مثل قوله لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]

فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزيل، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله، فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة -مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة- من أبلغ الآيات الخارقة للعادة؛ بمنزلة من يقول إني آخذ جميع أموال أهل هذه البلد العظيم وأضربهم جميعهم وأجوعهم، وهم قادرون على أن يشتكوا إلى الله وإلى ولي الأمر، وليس فيهم مع ذلك من يشتكي؛ فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.

ولو قُدّر أن أحدا صنف كتابا يقدر أمثاله على تصنيف مثله، أو قال شعرا يقدر أمثاله على أن يقولوا مثله، وتحداهم كلهم، فقال: عارضوني، وإن لم تعارضوني، فأنتم كفار، مأواكم النار، ودماؤكم حلال؛ امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد، فإذا لم يعارضوه كان هذا من العجائب الخارقة للعادة. والذي جاء بالقرآن صلى الله عليه وسلم قال للخلق كلهم: أنا رسول الله إليكم جميعا، ومن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أبيح لي قتل رجالهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، ووجب عليهم كلهم طاعتي، ومن لم يعطني كان من أشقى الخلق، ومن آياتي هذا القرآن فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله، وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله.

فإنه لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.

فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه، بل صرف الله دواعي قلوبهم ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام، ولا على الأكل والشرب، فإن المنع من المعتاد، كإحداث غير المعتاد، فهذا من أبلغ الخوارق.

وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة فثبت كونه خارقا للعادة على تقدير النقيضين: النفي والإثبات، فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر”.

قلت: وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة؛ فإنه قال: وذهب الشيخ أبو الحسن -يعني الأشعري- إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ويقدرهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا، ولا يكون فمنعهم الله هذا، وعجزهم عنه. قال: وقال به جماعة من أصحابه.

قال: وعلى الطريقين فعجز العرب عنه، وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر، وتحداهم بأن يأتوا بمثله قاطع.

قال: وهو أبلغ في التعجب، وأحرى بالتقريع، والاحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم، وهو أبهر آية، وأقمع دلالة ..

————————————————-

[1]  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 113).

[2]  لوامع الأنوار البهية (1/ 174).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *