تعد الفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه مظلوما واحدة من أهم المحطات السياسية في تاريخ الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبيعة السقيفة، وقد صارت فتنة لمن جاء بعدهم، فمن خائض يلغ بغير علم ولا عدل، ومن متوقف مؤثر لسلامة لسانه من الأعراض بعد أن سلمت يده من الدماء، ومن محقق بعلم وعدل، وقد كتب شيخنا محمد بوخبزة حفظه الله تعالى مقالات كثيرة عن الفتنة وأحداثها وما يجب على المسلم أن يكون عليه بخصوصها معتمدا على نصوص من الوحي والتاريخ، وسأختار محطات أربعة ينبني عليه موقفه عامة معلقا عليها متى احتيج لذلك وهي:
المقالة الأولى:
(روى الشمس الذهبي في السير بسند رجاله ثقات كما قال شعيب الأرنؤوط: “أن أبا مسلم الخولاني وأنا سامعه جاؤوا إلى معاوية وقالوا: أنت تنازع عليا أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمته، والمطالب بدمه، فائتوه فقولوا له: فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه فلم يدفعهم إليه” اهـ، وفي رواية أيضا عند ابن كثير في (البداية والنهاية): “فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية“.
قلت:
وهذه الرواية الصحيحة إلى روايات أخرى تفصح عن مقصد معاوية، وأنه لم ينازع عليا في الخلافة، وإنما كان محور الفتنة المطالبة بتسليم قتلة عثمان، وكانوا في جيش علي، وكان علي الإمام المجمع من كبار الصحابة وأهل الحل والعقد على إمامته وبيعته، يقول: ليدخل معاوية ومن معه فيما دخل فيه الناس، وأنا كفيل بإقامة حكم الله في الموضوع، وامتناعه رضي الله عنه من تسليمهم كان لما يعلمه ويتحققه من كثرتهم وظهور العصبية القبلية في ذويهم، وأنه لو أقدم على التسليم لثارت فتنة لا يقدر على إخمادها، وحينما تجتمع الكلمة، وتتوحد الآراء يسهل البت في الأمر، والنص كذلك اعتراف صريح من معاوية أمير المؤمنين لعلي، وأنه أفضل منه، لا كما يقول الرافضة والغماريون بطنجة أنه كان يبغضه).
المقالة الثانية
(لما جاء معاوية بن أبي سفيان عنه نعي علي بن أبي طالب رضي الله عنه جلس وهو يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي، فقالت امرأته: أنت بالأمس تقاتله واليوم تبكيه؟ فقال: ويحك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره» – وفي رواية: «إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم» – أورده ابن كثير في البداية (8/15).
قلت:
وهذا لم يكف روافض طنجة من الغماريين للكف عن الوقيعة في معاوية رضي الله عنه والولوغ في عرضه واعتقاد نفاقه وكفره، وفي يقيني انه لو روى ثقات الإنس والجن فضيلة لمعاوية تشهد بإيمانه وصحة صحبته، لما قبلوها ودفعوها اغترارا منهم بخزعبلات شيخهم الرافض محمد بن عقيل الحضرمي التي سود بها صحف زبوره “النصائح الكافية، لمن يتولى معاوية” وهو عبارة عن مجموع من روايات من هب ودب في مثالب معاوية وبني امية دون بحث ولا نقد ولا تعقل ولا مقارنة، من تواريخ الطبري والمسعودي واليعقوبي وأبي الفرج الأصفهاني ونحوها من التواريخ التي تجمع ما صح وما لا يصح، علاوة على تشيع من عدا الأول، وأعوذ بالله من غلبة الهوى).
المقالة الثالثة
(في مغازي الزهري أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تقول: ‹‹إنما أريد أن يحجزَ بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبدا ››اهـ، وهذا تصريح منها رضي الله عنها انها لم تخرج ثائرة على أمير المؤمنين علي لخلافته، وإنما خرجت لما بلغها مقتل عثمان ومبايعة علي وخرجه من المدينة، وكان قصدها الكوفة مطالبة بدم عثمان، ومعتقدة أن وجودها ومكانها بين الخارجين سيحول بينهم وبين القتال، ولو علمت أن الأمر سيفضي إلى ذلك ما خرجت أبدا، وأنها كانت إذا قرأت قوله تعالى (وقرن في بيوتكن) تبكي حتى تبل خمارها .
قلت:
هذا هو الحق إن شاء الله، فأين هذا من ترهات الروافض وحكمهم على النوايا، وأنها كانت تبغض عليا وتتآمر عليه لموقفه منها في حادثة الإفك، والعجب أن الشيخ أحمد ابن الصديق كان يجاريهم في هذا ويسر حسوا في ارتغاء، بل هذا زاد على الرافضة تصريحه لي بخط يده أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم يبغضون عليا لا عائشة وحدها، وهو يروي الحديث الصحيح: ‹‹لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق››، الذي يلزم منه نفاق الصحابة كلهم، وهو بذلك حكم بنفاق ابن تيمية رضي الله عنه ؟!!).
المقالة الرابعة
(كان الأحنف بن قيس في جيش علي بن أبي طالب، وحضر معه صفين وغيرها، واعتزل الفتنة يوم الجمل، كان يغلط معاوية بعد أن استقر الأمر له، ويسكت معاوية ويتمحل ويصبر، فإذا لامه أصحابه على صبره على قوارصه قال: «هذا الذي إذا غضب غضبت له مائة ألف لا يدرون فيما غضب!» ومن مواقفه مع معاوية رضي الله عنهما ما رواه ابن أبي حاتم في تفسير قوله تعالى ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما نتنزل إلا بقدر معلوم﴾ أن معاوية قال: «ألستم تعلمون أن كتاب الله حق؟ قالوا: بلى، قال: فاقرؤوا هذه الآية (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) ألستم تؤمنون بهذا؟ وتعلمون أنه حق؟ قالوا: بلى، قال: فكيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف فقال: يا معاوية والله لا نلومك على ما في خزائن الله، و؟إنما نلومك على ما أنزل الله من خزائنه، فجعلته أنت في خزائنك، وأغلقت عليه بابك، فسكت معاوية» اهـ.
قلت:
والرجلان معا آية في الحلم والصبر، واحتجاج معاوية بالآية في غير محله، واعتراض الأحنف كذلك في غير موضعه، ومن المعلوم في التاريخ الإسلامي أن الفتنة الناشئة بين المسلمين منذ مقتل عثمان الإمام الشهيد رضي الله عنه حالت دون مواصلة الفتوح الإسلامية وممارسة الجهاد في سبيل الله، ولما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مظلوما واجتمع الناس على معاوية تفرغ هذا لنظام الدولة وتنظيم الجباية، ورواتب القضاة والعمال، وتأليف جيش مدرب وتزويده بما يحتاجه من سلاح، وبناء الأسطول العربي لأنه أي معاوية أول من غزا في البحر، وهذه أمور تحتاج إلى أموال تصرف لإنجازها، فهذا وجه ما فعل معاوية، ولم يحتجز مال الله لنفسه واستأثر به كما يفعل الملوك والرؤساء اليوم، ولا يبالون، فافهم هذا جيدا حتى لا تبتلى بالوقيعة في خير أمة أخرجت للناس).
كان هذا انتقاءا من نصوص كثيرة في الباب، نثرها شيخنا في كثير من كتبه التي لا تزال مخطوطة بيده، وقد آثرت أن لا أضع معها تعليقات حتى يخلص للقارئ موقف الشيخ من الفتنة وأحداثها سالما من التوجيه المسبق، ويتأمل في دقة الشيخ في ذلك ويلزم ما توحيه التعليقات على بصيرة وعلم والحمد لله رب العالمين.