تعتبر معارض الكتب من المناسبات الثقافية التي ينتظرها المثقف العربي كل سنة بشغف ولهفة توازي تعطشه لمثل هذه التظاهرات الثقافية التي تكاد تنعدم في مجتمعاتٍ آخر همّها الكتاب وما والاه، ومُنانا جميعا أن تتكرم وزارة الثقافة بجعلها عرسا شهريا، بدل أن تظل فسحة سنوية. ولعلّ ما أضحى يلفت انتباه الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي، حفلات توقيع الكتب التي تقيمها دور النشر لكتّابها خلال هذه المعارض.
فيما مضى -وقبل ولوجي عالم الإنترنيت- كنت أنظر لحفلات التوقيع نظرة مقدسة، محاطة بهالة من التعظيم، فرصة عظيمة تُمنح لكاتب عظيم أبدع في عمله الأدبي، فتقام له حفلة يتم من خلالها مناقشة ذاك العمل، والاستزادة من بديع كلام الكاتب عن عمله وظروف تأليفه. لكن هذه الأيام وأنا أتصفح مواقع التواصل، لا يكاد يمر يوم دون أن تطالعك صور حفلات التوقيع بالمعرض الدولي للكتاب بالقاهرة، وجلّ الحفلات لكتاب ناشئين، وكاتبات ناشئات، بعضهم كان المعرض فرصة ثمينة لعرض عمله الإبداعي الأول.
حفلات توقيع تتناسل بلا هوادة طيلة أيام المعرض، حتى فقدت بريقها ونكهتها وبلهجتنا المغربية (بْسَالَتْ) (نقول عن الشيء في المغرب أنه بَاسَلْ إن لم يكن به ملح، فيكون طعمه رديئا وغير مستساغ).
وهكذا هي الأمور حين تغدو سهلة المنال، ومطية لمن هبّ ودبّ، تفقد الكثير من جمالياتها، وتتبخر الكثير من جاذبيتها لكثرة عرضها وتداولها، يقول الأديب المغربي ربيع السملالي في مقالة ماتعة بعنوان “إدمان النظر يذهب بجمال الأشياء”: (وهناك أشياء كثيرة سقطت من أعين الناس؛ لكثرة الرؤية وتفسُّخ المرئي والمبالَغة في ظهوره)، وفي ذات المقالة نقل كلاما راقيا للمبدع المغربي عبد الفتاح كيليطو في كتابه “الأدب والغرابة” ص71: “ويَبلى الشيء إذا طال وقوع البصر عليه، وتمجُّه النفوس، ولا يصبو إليه أحد”.
لذا ستلاحظ أن جلّ حفلات التوقيع غاب عنها كبار الأدباء وعمالقة الثقافة، وهم يرون دور النشر تتنافس في تقديم حفلات توقيع لمن بدأ يحبو في ساحة الأدب، أو ارتضى السير في ركب (هبة.. يا هبة)، دون التفاتٍ لجودة الكتاب أو أهلية صاحبه. حاليا يكفي أن تكون لك صفحة قوية بفضاءات التواصل لتضمن نفاذ طبعات كتابك، يكفي أن تحيط بك زمرة من آلاف المعجبين والمعجبات، وأن تتمتع بروح مرحة، وإطلالة مشرقة لتجد الشباب يتهافت للحصول على توقيعك، فتغدو بين غمضة عينٍ وانتباهتها نجما من نجوم الكتابة!!
يقول الناقد محمد العباس: «التوقيع لا خلاف عليه، وهو تقليد عالمي، ولكن ليس بهذه البلاهة»!!
هي بلاهة وأيّ بلاهة، بعض مواقع التواصل عرضت مقطوعات لكتب ليس بينها وبين الأدب أية وشيجة، ومع ذلك أصرّت دور النشر على إقامة حفلات توقيع لها، ولسان حالها:
حفل التوقيع حتم لازم….من لم يوقّع كتابه فهو آثم!!
لستُ ضد حفلات التوقيع، وإن كنت ممن لا يحبذها لأسباب شخصية، لكني ضد تمييعها وتجريدها من قيمتها الثقافية، وجعلها مطية لمن لا ناقة له ولا جمل في مضمار الأدب. وهذا ما عبّر عنه الناقد الدكتور عبد الله الغذامي في تغريدة له على تويتر: (أنا أكره حفلات توقيع الكتب وأستحي أن أقول للناس اشتروا كتابي، وتعالوا أوقعه لكم، لكنني لا أعترض على اختيارات غيري).