أولوية المدنية.. أم غائية تحقيق العبودية.. رشيد مومن الإدريسي

تتعالى في هذا الحين عند الكثيرين أصوات تنادي بالإصلاح إلا أنها تقتصر في خطاباتها بخصوص ذلك غالبا على الإصلاح الدنيوي وإقامة العمران، مما يؤدي إلى (المغالاة في قيمة المدنية والحضارة).. ولو بعد حين، بسبب عدم مراعاة (سلم الأولويات).. على وفق الحقائق الشرعية، فتتبدى عندها حالة من (الانقلاب المعياري)..
ومن إفرازات ذلك تحويل الوحي من (حاكم على المدنية).. إلى مجرد (محام عن منتجاتها).. ولا يخفى على البصير الفرق بين الأمرين، وعليه فـ (الغلو المدني) أو (غائية المدنية) ينبوع انحراف المفاهيم والأنظار، وفساد السلوك والأفعال..
ولا تستخف -يا رعاك الله- بهذا البيان بدعوى أن الأمر ربما لم يتجاوز الخطاب فحسب، حيث نقول: قد يكون الأمر كذلك إلا أن مآلات هذا الخطاب ما ذكرناه، وصدق من قال: “الاستخفاف أخدود الزلل”، إضافة إلى أننا أمرنا شرعا بسداد القول وحسن الخطاب، فإن “ما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد”1، و(إذا لم تستطع قول الحق فلا تنطق بالباطل)..
فالإصلاح الحقيقي الشرعي يشمل كل ما له تعلق بأمر الدين، ويستوعب جميع شؤون الدنيا، مع التنبه هنا إلى أن الإصلاح الدنيوي وسيلة والديني هو الغاية؛ بخلاف ما عليه (غلاة المدنية)!! الذين يعتبرون أي إنزال للمدنية المادية إلى مرتبة الوسيلة والتي هي دون الإيمان والأعمال الدينية أنه يصب في إلغائها، مع أن الأمر على خلاف ما يتوهم!
فلما تكلم الإمام ابن تيمية رحمه الله عن (وظيفة الدولة) وفق ما جاء في شريعة الإسلام قدم تلخيصا هاما يكشف (وسيلية المدنية) وكونها مرتبطة بـ (الغاية الدينية) حيث قال: “فالمقصود الواجب بالولايات:
أ – إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.
ب – إصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمرهم” 2.
فظهر أن المقصود من هذا مراعاة سلم الأولويات في هذا الباب، ذلك أن المقولة المحورية في خطاب غلاة المدنية هي (أولوية الحضارة) بمعناها الدنيوي المجرد، أما المقولة المركزية في الخطاب الشرعي فهي (أولوية تحقيق العبودية) بمعناها الشامل، والتي يندرج فيها ما يُقيم الحضارة بالمفاهيم الربانية، وبحسب منزلتها في (سلم النصوص الشرعية) فتأمل وبالعلم تجمل.
وقد أصبح بسبب تجاهل هذه الحقيقة الشرعية وغض البصر عنها: هرم الأولويات في هذا الصدد عند بعض المنتسبين للدعوة في الساحة الإسلامية مقلوبا على رأسه بحسن نية، وتحت وطأة الرغبة الملحة في تأليف قلوب الناس وجعلها تميل إليهم، مع أن الواجب أن نحذر من مخالفة الحقائق الشرعية.. ونكون بمبعدة عن مجاملة وسائل الإعلام.. وإرضاء الذوق الجماهري.. ورحمة الله على إمام البيان مصطفى صادق الرافعي لما قال: “يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يصلح به الناس، لا فيما يصطلح عليه الناس”3.
نُرَقِّع دُنيانا بتمزيق ديننا — فلا دِينُنا يَبْقَى ولا ما نُرقع
فالواجب أن نكسب انتماء الجماهير إلى الإسلام والقرآن والنبي العدنان عليه الصلاة والسلام تزكية وتعبدا بتأسيس (مركزية الآخرة) في النفوس مقابل (مركزية الدنيا)..
إن تغليب جانب العدل الدنيوي في الخطاب الإصلاحي والغلو في ذلك هو من جنس دعاوى الفلاسفة في خصوص المقصود من النبوة والرسالة، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..ومما يبين فساد قولهم (أي: الفلاسفة) أنهم يزعمون أن المقصود بالرسالة إنما هو إقامة عدل الدنيا”4.
فهل الحكمة من خلق الإنسان هي (العمارة) وكل ما سوى ذلك وسيلة لها؟!
أم أن الحكمة هي (التزكية) وأن ما في هذه الدنيا يستعان به فيما نحتاجه منها لتحقيق العبودية؟
لا شك عند من التصقت ثقافته بالوحي، ولازم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة يقرر أن العمارة والمدنية مجرد وسيلة لإظهار الدين وإقامة الشعائر والشرائع في دنيا الناس 5، فلا يحمد من هذه المدنية إلا ما حقق هذه الغاية، ومنه فإن منزلة إقامة المدنية دون مجاوزة للحدود الشرعية تتلخص بناء على مر في قول علماء الأصول: “ما لا يتم الواجب (إقامة الدين في دنيا الناس) إلا به (المدنية) فهو واجب (حكمها)”6، ولذا فالمدنية باختصار قد تكون (مقدمة الواجب)7.. لكن أساس ذلك كله صلاح الأنفس بالدين لكي نقيم المدنية دون مخالفة شرعية، فنستعين بذلك على إقامة الشرائع في دنيا الناس إرضاء لرب العالمين، وعلى حد قول أحد الفضلاء رحمه الله: “من القرآن إلى العمران”..
قال الإمام الماوردي رحمه الله: “..الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعا في انتظامها وسلامتها8، ولذلك لم يُخْلِ الله تعالى خلقه مذ فطرهم عقلاء من تكليف شرعي، واعتقاد ديني ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء”9.
فلا سبيل لأحد يدعو إلى الإصلاح حقيقة إلا بالرجوع إلى الشرع والركون إليه والانطلاق منه، وأما خلاف ذلك فهو سير في طريق الفوضى والضياع.. والفرقة والنزاع..
قال العلامة المعلمي اليماني رحمه الله في مقدمته على (فضل الله الصمد): “قد أكثر العارفون بالإسلام -المخلصون له- من تقرير أن كل ما وقع فيه المسلمون من الضعف والخور والتخاذل -وغير ذلك من وجوه الانحطاط- إنما كان لبعدهم عن حقيقة الإسلام.
وأرى أن ذلك يرجع إلى أمور:
الأول: التباس ما ليس من الدين بما هو منه.
الثاني: ضعف اليقين بما هو من الدين.
الثالث: عدم العمل بأحكام الدين “10.
إن ما سبق إيضاحه بخصوص (المدنية) و(التزكية) في سلم أولويات العبادة بمفهوهما الشامل مهم مراعاته لتقييم الأمور ووضعها في موضعها على وفق مراد الله تعالى، فإن “ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور”11، ذلك أن الاختلاف في هذا المجال فيما يتعلق بتحديد الوسيلة والغاية يتفرع عنه المباينة في منهجية الإصلاح وفقه التغيير..
إن النظر المقاصدي يؤكد تقديم المصلحة الباقية المؤبدة (سعادة الآخرة).. على المصلحة المؤقتة (متعة الدنيا الفانية).. ولأجله بين الله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن على أن المنزلة والمكانة الحقيقية عنده سبحانه ليست بالمظاهر المدنية المادية، ولا بالإمكانيات الاقتصادية.. لأنها لا تعدو أن تكون بمجموعها “لذة مؤقتة” ..(وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)، فهل يا ترى ستكون موازيننا تابعة لـ(ميزان الله تعالى)، أم ستكون لنا موازيننا الخاصة؟!
إن العلوم المدنية قبيل مبعثه عليه الصلاة والسلام بلغت شأوا عاليا في دقائق المعقولات كدقائق الهندسة، وحساب الدوال الرياضية، وفنون العمارة والشعر والأدب، وأصول الطب، والمسافات الفلكية.. وهكذا دواليك، ومع ذلك حَكَم الله تعالى على البشرية عندئذ بأنها في “ظلمات” وأن الذي تحتاجه أصالة وأساسا هو (نور الوحي)12، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، وسيبقى كل من أعرض عن نور الوحي مرتكسا في ظلماته مهما أوتي من العلوم المدنية، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ)..
ولذا فـ”الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين، إما من نبوة أو دعوة حق”13.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو أثر نبوة، وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات، ولا يستريبن العاقل في هذا الباب الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة والصابئة والمجوس ونحوهم، فلاسفتهم وعامتهم قد أعرضوا عن الله وتوحيده، وأقبلوا على عبادة الكواكب والنيران والأصنام وغير ذلك من الأوثان والطواغيت فلم يبق بأيديهم لا توحيد ولا غيره”14.
…………………………………….
1. الصارم المسلول لشيخ الإسلام رحمه الله 2/735.
2. السياسة الشرعية 37.
3. بدائع الحكم من وحي القلم لحسن السماحي سويدان 60.
4. الصفدية 2/238.
5. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: “وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات، بل أكثر أحكام الفقه، مقصودها: حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين” الإحياء 2/108.
6. قال العلامة السعدي رحمه الله: “الرقي الحقيقي الصحيح هو باستصحاب العلوم الدينية والعلوم الكونية، وامتزاج كل منهما بالآخر وتعاونهما وتساعدهما على سلوك طرق الصلاح المطلق، والسعادة الحاضرة والمستقبلة، والاستعانة بالنعم على طاعة المنعم، لتتم النعم وتكمل السعادة” (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة1/277).
7. وهذا يؤكد وسيليتها، وضرورة اجتناب الغلو فيها خطابا واهتماما..
8. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “أيها الناس أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم” حلية الأولياء 5/266.
9. أدب الدنيا والدين 121.
10. 1/17.
11. الإحياء لأبي حامد رحمه الله 3/403.
12. قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وعند المسلمين من (العلوم الإلهية) الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نورا وهدى” الفتاوي 2/84.
13. مقدمة ابن خلدون رحمه الله 78.
14. الصارم المسلول 256.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *