الإيمان وبناء الحضارة عمر خويا

 

قد تحمل الحضارة للنّاس من الخير أو تكون وبالا عليهم بقدر ما تلتزم به من أحكام شرع الله سبحانه؛ لذلك فالتّحضّر كسب إنساني يصيب ويخطئ ويقوَى ويفتر. وترجع درجة قوته وعظمته ودوامه إلى درجة قربه من الخير والصّلاح؛ فنفوس النّاس تستريح لمّا تصلُح أحوالهم، فتتوالى على إثر ذلك عطاءاتهم ويُسهم كل واحد منهم في بناء المجتمع وانتظام شؤونه.

فالإنسان الذي عليه مدار حركة التحضّر مُطالب بالنّظر الصّحيح إلى أمور الحياة حتّى يبصرها على حقيقتها، فيرى نفسه على أنّه عبد مستخلف في أرض الله، مكلّف بأمانة العبادة والعمارة ومسؤول عنها، ويؤمن بذلك إيمانا راسخا يملأ قلبه ويحكم جوارحه فلا تتصرّف إلا وفقه، مرجعه في ذلك ما خاطبه به ربّه في كتابه وسنّة نبيّه عليه الصّلاة والسّلام. وإذا كان هذا دأب أغلب أفراد المجتمع فإنّك تجدهم مقبلين على الله متعاونين ومنصرفين عن التّهارش على متع الحياة، فتتّحدُ وجهتُهم ويقلّ خلافهم ويعمّ خيرهم النّاس، فتعظم دولتهم وتترفّه معيشتهم.

وهنا يكون التّرف في المجتمع بمعنى التّنعم بالطّيّبات من غير سرف إذ لا يفضي إلى فساد. أمّا إذا وقع الخلل في فهم الأشياء وتصوّرها، فإنّ بناء الحضارة ينشأ معوجّا شائها يحمل بذور فنائه في داخله، لأنّ الإنسان، محور التفاعل بين عناصرها، فاسد في ذاته ومفسد لغيره بتصرّفه، فإذا بلغ إفساده مبلغا كبيرا تستحيل معه الحياة السّليمة جاءه أمر الله بالتوقّف والفناء، ليتيح لغيره فرصة إعادة البناء من جديد.

لذلك لا بدّ أن يكون محتوى العقيدة الإيمانية صحيحا كلّ الصّحّة، موثوقا كلّ الثّقة، لأنّها أساس استقامة بناء الحضارة والسّببُ الرئيس لزواله، وربّنا عزّ وجلّ لم يترك أمر هذه العقيدة لآراء النّاس واجتهاداتهم، بل حسم القول فيها وحدّد أركان الإيمان في ستّة معلومة هي الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه، وهي الحقائق الغيبية الكبرى التي يُقوّم التّصديقُ بها فكرَ المؤمن وقلبه ويدفعه إلى حسن السلوك، فيسلم سيْره في الحياة بحيث يبذل وسعه في أداء وظيفته في الوجود.

ومتى صحّت العقيدة فهِم المؤمن بها حقيقة وجوده، ونبتت في قلبه همّة لا تفتُر إلا بفتور إيمانه، يُقبل بموجبها على العمل الصّالح بصلاح عقيدته. وإذا أشربت الجماعة الإيمان سارعوا إلى العمران المادّي والمعنوي، فتنشأ الحضارة وترتقي وتدوم بدوام قوّة عقيدتهم وسلامتها. لكن إذا كان المعتقد أوهاما وصورا مشوّهة للحقيقة، ارتبك تصوّر الوجود في الأذهان واضطرب الفهم وتحيّر القلب فضعف إقباله على الفعل الإيجابيّ في الحياة، ألا ترى الذي لا يدرك وظيفته في الحياة إمّا يكون خاملا أقعدته الحيرة وأعجزه الاكتئاب وهؤلاء قلّة، أو نشيطا يصرف كلّ ما أوتي من قوّة ومال في إشباع متَعه، متحرّرا من القيم والأخلاق، خائفا من أن ينصرف زمانه ولم يُحصّل منها غير القليل، لأنّه لا يؤمن بالحساب والجزاء بعد الموت.

وإفساد هؤلاء في الحياة بيّن واضح، فكيف بإفساد الجماعة إذا انحرفت عقيدتها؟ لهذا ألحّ القرآن الكريم على تصحيح عقيدة المرسل إليهم على لسان رسلهم لأنّها المبدأ والأساس. واهتمّ بالأخطاء السّلوكية إذا شاعت لأنّها صارت مظهرا خارجيّا لفساد الاعتقاد الجمعي كما في فاحشة اللّواط في قوم لوط ومعصية تطفيف المكيال في قوم شعيب عليهما السّلام.

وإذا عمل الإيمان عمله في بيئة معطاء كثيرة الخيرات عظُم الإنجاز الحضاري فيها، وهذا لا يعني بأنّ التّحضّر مستحيل في بيئة شحيحة وقاسية، وإنّما يستلزم همّة وجهدا إضافيين إذا غابا قد لا يتحقّق. لهذا فالإنسان يظل مسؤولا عن وجود حضارة أو زوالها أو عدم قيامها أصلا، لأنّها عمل كسبيّ يرجع إلى إرادته وهمّته. والله عزّ وجلّ في جميع الأحوال ما خلق الأرض إلاّ ذلولا لجميع أهلها في كلّ زمان ومكان، يمشون في أنحائها ويستثمرون خيراتها لينتفعوا بأرزاقها. ومنافعها مبثوثة فيها بطريقة تحقّق سنّة الابتلاء في الخلق، حيث نجد مناطق تفيض معادنها، وأخرى ثرواتها السّمكية وشواطئها، وثالثة أراضيها الخصبة ومياهها.. ولا نتصوّر بلدا في الأرض محروما بالجملة من صنف من خيرات الأرض التي لها قيمة في بناء المجتمعات والحضارات.

ومن تجلّيات حكمة ربّنا في خلقه، أن يوجِد في الأرض التي استخلف فيها الإنسانَ ما يكفيه من الخيرات في جميع الأوقات، وإنّما المشكلة عنده تكمن في ظلمه لبني جنسه وتضييعه لحقوقهم. والنّظام الوحيد الكفيل بتحقيق العدل والسّموّ بحضارة الإنسان إلى أعلى المراتب واستدامتها، هو شرعه الذي ما فتئ يدعو إليه من خلال حركة الرّسل عبر التّاريخ. ولو شاء سبحانه لأفاض النّعم على الجميع وما احتاجوا إلى طول معاناة في إيجاد الرّزق والانتفاع به، ولكن سنّة الابتلاء التي قدّرها سبحانه قضت بأن تكون الحياة الدّنيا هكذا تمحيصا لعباده.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *