هل هناك أصولية تعادي إمارة المؤمنين؟ حمّاد القباج

أن يسعى العلمانيون لمحاربة انتشار التدين في المجتمع، وأن يتخذوا مواقف عدائية من العلماء والدعاة؛ هذا موقف مفهوم الأسباب، وإن كان يشكل تناقضا صارخا مع ما يلهجون به دائما من الدعوة إلى حرية الرأي والتعبير، بصفتها أبرز وأول مبادئ الديمقراطية..

إنه موقف مفهوم الأسباب لأنه يمثل تعبيرا تلقائيا عن الكراهية التي تهيمن على شعورهم تجاه التدين، والتي تغذيها الشبهات والأفكار المغلوطة التي يحملها القوم عن الإسلام وشريعته ودعوته..
لكن أن يستخف هؤلاء بعقول القراء كما فعلت (جريدة الأحداث) في مقالها: (الشأن الديني بأفق محاسن اليقظة) العدد (4348)؛ هذا هو ما لا يمكن فهمه أو تصوره من صحافة تدعي الموضوعية واحترام أخلاقيات المهنة..
تأتي المقالة المذكورة في سياق محاولة الاستمرار في فرض وصاية يسارية على الحقل الديني، ومحاولة الإيهام بأن هذا الموقف ضروري لمحاصرة الدعاة الإسلاميين كي لا يكون لهم دور في توجيه المواطنين وإرشادهم إلى التدين والاستقامة، وبناء سلوكهم على أحكام الإسلام وآدابه –وهو ما يعتبرونه أصولية وانغلاقا-؛ وفي هذا السياق يقول صاحب المقال: “حديث الحركة الأصولية في أكثر من مناسبة عن القضايا ذات الصلة بالشأن الديني في المغرب، يعطي أكثر من انطباع على استمرار وصايتهم على ضمير الأمة ومؤسساتها، وكأن المغرب أرض خلاء بدون مرجعية دينية.
لا تتردد هذه الحركة في الحديث عن الدولة وكأنها متهمة ابتداء بالتفريط في أمر الدين”اهـ.
لقد جهل الكاتب أو تجاهل؛ بأن أداء الدعاة لواجبهم في الدعوة إلى الله سبحانه؛ سلوك إصلاحي يستند إلى نصوص من القرآن الكريم والسنة المشرفة، كقول الله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال سبحانه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
كما جهل أن هذه الوظيفة يقوم بها كل مؤهل يلتزم بالثوابت الوطنية المنصوص عليها في الدستور، ولا يمكن شرعا ولا واقعا أن تُحتكرَ لجهة معينة يحاول العلمانيون أن يفرضوا من خلالها وصايتهم.
وإذا كان العلمانيون يسعون لتحجيم هذه الوظيفة في المجتمع؛ فإن الواقع يشهد بأن الضرورة قائمة والحاجة ماسة لتعزيز الخطاب الديني على مستوى الدعوة وعلى مستوى الإفتاء على حد سواء، ومع كون الغالب على المغاربة الميل إلى التدين والتعاطف الفطري مع الخطاب الدعوي (وهو ما يشهد به الواقع وتؤكده الدراسات)، فإن هذا لا يعني أنهم يجدون كفايتهم في ما يتعلق بتعليمهم أمور دينهم وإفتائهم في نوازلهم، وتحصينهم من شبهات الغلو والإرهاب من جهة، وشبهات الانحلال والعلمانية من جهة ثانية..
وقد أضحى من البيّن أن المجتمع المغربي مهدد في هويته الدينية بهذين النوعين من التطرف:
الأول: التطرف الديني الذي يمثله التكفيريون والمتنطعون. والثاني: التطرف اللاديني الذي يمثله الملاحدة والعلمانيون. فهذا هو الذي يخشى منه على (الشأن الديني) في المغرب، خلافا للمخاوف الوهمية التي نسجها خيال الكاتب، وذهبت به إلى حد اتهام العلماء والدعاة –بما فيهم: علماء المجلس العلمي الأعلى- بأنهم “يطعنون عمليا في إمارة المؤمنين ورمزها”، وهذا عين السفسطة والاستخفاف بالعقول..
وهكذا نرى كيف ترجع (الأحداث المغربية) إلى أساليبها الصبيانية واتهاماتها الجزافية التي تحشر من خلالها من تعاديهم في خانة الخارجين عن الوطنية وإمارة المؤمنين.
والعجيب فعلا؛ أنها جعلت المجلس العلمي الأعلى شريكا في هذا (المخطط الأصولي)، وهذه سابقة خطيرة، تؤكد ما رددناه في مقالات سابقة؛ من أن العلمانيين لا يوقرون العلماء الرسميين إلا بالقدر الذي يتجاوبون به مع تصورهم لعلاقة الدين بالمجتمع، ومن ذلك ما يعتقدونه من أن الدين لا ينبغي أن يتدخل في السياسة كما زعم كاتب مقالة الأحداث.
ومتى خرج العلماء عن هذا الخط، -ولو ببيان محتشم يُبدون فيه رأيهم حول ما تشهده الساحة من حركة تغييرية-؛ فإن الإعلام العلماني ينقضّ عليهم بدون هوادة، كما فعلت (الأحداث) مؤخرا في مقالات تتهمهم فيها بأنهم أشد خدمة للأصولية المزعومة من العلماء المستقلين كالشيخ المغراوي، الذي نرجو أن يكون علماء المجلس العلمي الأعلى قد أدركوا أنهم أخطؤوا حين أصدروا في حقه ذلك البلاغ التعسفي، انسياقا مع الحملات الإعلامية المضللة..
وإلا فإن هذه الحملة التي تشنها ضدهم اليوم هذه (الجريدة) تجعل حالهم مع العلمانيين شبيها بحال (الثور الأسود)، الذي قال: “ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
إن المطلع على أصول الفكر العلماني؛ يعلم موقف العلمانية من نظام إمارة المؤمنين ومنزلة هذه المؤسسة الشرعية في قاموسهم الفكري وتصورهم السياسي، وأنهم لا يؤمنون بها إلا بالقدر الذي يحاولون أن يوظفوها فيه لإقصاء الدعاة وتكبيل أيدي العلماء وتكميم أفواههم.
أما العلماء والدعاة الصادقون فإنهم يؤمنون بأهمية البعد التاريخي والحضاري والسياسي لهذه المؤسسة، وأنها من الضمانات بإذن الله تعالى لوحدة المغاربة وسلامتهم من التناحر الطائفي وآثار الصراع السياسي..
إن الذي يرفضه العلماء هو محاولة العلمانيين جر إمارة المؤمنين لتكون أداة تضييق على وظيفة الدعوة إلى الله وعلى انتشار التدين في المجتمع، وهذه هي الوصاية التي حاول العلمانيون ممارستها طيلة العقد الماضي، الذي شاهدنا فيه تدخلا سافرا لهؤلاء في سياسة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، تدخل بدأت فصوله بالحملة الشرسة على وزير الأوقاف الأسبق، ولم تنته بإغلاق دور القرآن السلفية وعزل الدكتور رضوان بن شقرون، لأنه استنكر استضافة أحد الشواذ في مهرجان موازين، وهذا غيض من فيض يبين -بالحجة والبرهان، وليس بالزور والبهتان-؛ للقراء: من يمارس الوصاية على الشأن الديني، ومن يحارب إمارة المؤمنين من خلال محاولة إحداث صراع بينها وبين العلماء؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *