تقديم
هذا المقال للعلامة الشيخ المكي الناصري، نشر بجريدة الوحدة المغربية، عدد:505 بتاريخ 20/1/1946، في إطار التعريف بالأوضاع في المغرب.
النص
في هذه الأيام الأخيرة، وقبيل إعداد الدورة الأولى لمجلس الأمم المتحدة، وفي نفس الموعد الذي أقبلت فيه الذكرى الأليمة الثانية لموسم الجهاد الوطني (تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال)، فكرت الحكومة الفرنسية في القيام بتمثيل رواية مسرحية جديدة توهم العالم الدولي والشعب المغربي أنها واثقة بالمستقبل القريب والبعيد، وتحاول أن تلقي في روع المغاربة أن سلاسل استعمارها لن يقوى الدهر على كسرها وتحطيمها أبدا.
تلك الرواية هي الزيارة الخاطفة التي يقوم بها في هذه الأيام إلى شمال إفريقيا سعادة وزير الدولة المسيو جاكينو، والتي خصص لها من وقته الثمين مبلغ ثلاثة أسابيع كاملة، فقد طبلت وزمرت لهذه الزيارة قبل القيام بها جرائد فرنسا اليومية وشركاتها الإخبارية، وصرحت بأن الغرض الأساسي منها هو تنسيق الشؤون الإسلامية في تونس والجزائر والمغرب، ثم بعد الشروع فيها كتبت عنها الجرائد الفرنسية ببلدان الشمال الإفريقي، وحاولت أن تفهم الأفارقة الشماليين أن محور الزيارة يدور فقط على مسائل اقتصادية بحتة، وقد اختار المسيو جاكينو أن يتشرف بالمقابلة الملكية في القصر السلطاني بالرباط يوم 10 يناير الجاري، أي قبل حلول الذكرى الثانية لانفجار البركان المغربي ضد فرنسا بيوم واحد، عسى أن يضعف ثقة الشعب بملكه المفدى وحارسه الأمين، ولكن جلالة الملك الشعبي الأوفى قابله باحتراس واحتراز، ولم يزد في الحديث معه على ما تقتضيه المجاملات، ويقضي به عرف التشريفات، ثم أقبل المسيو جاكينو على المآدب والضيافات والمتع والنزهات، شأن جميع الزوار الرسميين الذين اعتادوا المجيء إلى هذه البلاد، فما من بعثة رسمية أو لجنة، أو هيأة تمثيلية وفدت من فرنسا إلى المغرب وبقية الشمال الإفريقي إلا ونظمت لها الإدارة الفرنسية المحلية حفلات الأكل والشرب والرقص والتسلية ما يلهيها بالمرة عن المهمة الأساسية التي جاءت من أجلها، وما يقيم بينها وبين الحياة الحقيقية في هذه البلاد سورا غليظا لا يرى من ورائه شيء، ثم ينتهي الموعد المحدد للزيارة، ويعود الزائر من حيث أتى لا يحمل معه إلا بعض التحف والهدايا الثمينة التي قدمها له كبار الموظفين، وبعض الأوراق والأرقام التي أعدتها له نفس الإدارة الاستعمارية المحلية، لتعضد بها نظرياتها، وتغطي بها مواطن عجزها وتقصيرها.
وهكذا دواليك يتعاقب الزوار وتتوارد اللجان، والمشاكل تزداد مع الأيام خطورة وتعقيدا، وهذا من أقوى الأسباب التي جعلت السياسة الفرنسية سياسة فاشلة في شمال إفريقيا عموما والمغرب خصوصا، لأن النظام الاستعماري الذي وضعته فرنسا منذ القرن الثامن عشر بقي جامدا متحجرا لا يتطور مع الزمن، بينما كل ما حوله قد يتطور تطورا حاسما وفاصلا، ولأن المستعمرين الفرنسيين أقاموا ألف حجة وحجة على أنهم أعرق في الجمود والتعصب للنظريات السياسية البالية القديمة من أولئك الشيوخ المغاربة الذين كانوا ولا زالوا يأخذون عليهم التمسك بالقديم من التقاليد والعادات والأفكار، بينما هؤلاء تقدموا خطوات واسعة إلى الأمام في طريق التطور فكريا وماديا.
وربما صدر هذا المقال والمسيو جاكينو يعد العدة ليقفل حقائبه ويعود من حيث أتى قاصدا باريس دون أن يفيد ولا أن يستفيد، فالمغاربة خاصة والأفارقة عامة لم تعد تستهويهم كلمات (الصداقة النهائية) و(الأخوة الحقيقية)، ما دامت فرنسا سلبتهم أعز ما كانوا يملكون: (الحرية)، وما دامت تحول بينهم وبين ما يريدون: (الاستقلال والسيادة)، وكما أن (وزارة ما وراء البحار)، و(وزارة إفريقيا الشمالية)، منيتا بالفشل من أول خطوة، فكذلك سيفشل المسيو جاكينو في زيارته الخاطفة ومحاولته السطحية.
لقد أرهفنا السمع كثيرا عسى أن يصل إلى آذاننا ولو تصريح بسيط غامض عن رأي فرنسا في مستقبل (المغرب العربي)، وحاولنا أن نتخيل ولو في المنام أن عقلية الفرنسيين قد تطورت ودخلت في عالم العقليات العادية البعيدة عن الشذوذ والغرابة، وكان إيماننا عظيما بأن (العدوى) تسري وتتنقل لا في الأشياء المادية وحدها ولكن في النظريات والأفكار أيضا، غير أنه لم يسعفنا الخيال بشيء لأن الحقيقة المرة تفرض نفسها في اليقظة والمنام.
وفي نفس الوقت تولى وجهنا إلى مجلس الأمم المتحدة المنعقد بلندن، فنستمع إلى رئيس الوفد الأمريكي المستر بيرنس، ونستمع إلى رئيس الوفد الانكليزي المستر بيفن، وهما ممثلا أكبر كتلة ديموقراطية غنية متضامنة، منسجمة متوازنة، وإذا بنا نسمع لغة الدبلوماسية المعتدلة، وصيحة الإنسانية الصادقة، ونداء العقل المتوازن الرزين، لهجة العصر الذري الجديد.
يتكلم المستر بيرنس عن التصريح الأساسي الذي وقعته الأمم المتحدة، ويلفت النظر إلى أن غرض هذه الأمم التي اتحدت من أجل الدفاع عن حرياتها ليس هو التهرب من مواجهة حقائق العالم الذي نعيش فيه الآن، بل مواجهة تلك الحقائق وحل مشاكلها.
ويصرح بأن ميثاق الأمم المتحدة الذي وضع في مؤتمر سان فرانسيسكو قد أصبح جزء لا يتجزأ من قانون الدول الإحدى والخمسين التي صادقت عليه، وأن الدول العظمى يلزم أن تخدم العالم لا أن تسيطر عليه، وأن تعتبر ما عندها من قوة بمنزلة تراث مقدس لا يستعمل لخدمة أية غاية من الغايات الأنانية، وإنما يستعمل لخير جميع الشعوب، ويعلن أن المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق مجلس الأمم المتحدة هي تأسيس نظام متين للسلم يستطيع أن يقاوم زعازع المستقبل، وأن يساعد على رفاهية جميع شعوب العالم وخيرها اقتصاديا واجتماعيا.
وبالإجمال يتحدث حديثا منسجما كل الانسجام مع المبادئ الأساسية الإثني عشر التي حددها الرئيس ترومان كأساس للسياسة الخارجية الأمريكية.
ويتكلم المستر بيفن، فيصرح: بأن انجلترا لم تتقدم إلى التضحية بزهرة شبابها، وذخر ثروتها، من أجل رغبة في التوسع والطمع أو الاستيلاء على الغير، وإنما من أجل الحرية والديموقراطية والسلم العالمي الشامل، ويعلن إلى العالم كله بشرى جديدة ولا سيما بالنسبة إلى العالم العربي الناهض، هي أن الحكومة الانجليزية عازمة في أقرب وقت على اتخاذ التدابير اللازمة لجعل شرق الأردن الذي كانت تحت الانتداب البريطاني دولة مستقلة ذات سيادة كاملة، كما يعلن أن المستعمرات الألمانية القديمة في إفريقيا التي كانت وضعتها عصبة الأمم السابقة تحت انتداب انكلترا ستقدمها الآن إلى مجلس الوصاية التابع لهيئة الأمم المتحدة، وتضعها تحت تصرف هذا المجلس الذي يشرف على خير سكانها ومصالحهم الحيوية، والذي يحدد إزاءها ما يلزم من واجبات والتزامات، ويلفت نظر الجميع إلى أن مصاريف هيئة الأمم المتحدة التي ستكلفها سنويا جميع الدول المشتركة فيها لن تكون أكثر من مصروف يوم واحد من أيام الحرب في انجلترا وحدها، وبيّن بدلائل واضحة أن كل مجهود يبذل في سبيل هذه الهيئة السلمية العالمية يعتبر تافها وبسيطا بالنسبة للمجهود الذي بذل خلال الحرب المنتهية.
وما يكاد ينتهي من خطابه التاريخي الخطير حتى يقابل بالتصفيق والتحبيذ من مندوبي 51 دولة يمثلون كثرة أمم العالم.
وبينما كان المستر بيفن يعلن هذا من منبر الأمم المتحدة كان المسيو بيدو وزير الخارجية الفرنسية قد فارق لندن فارا إلى باريز بدعوى حضور مناقشة في المجلس التأسيسي الفرنسي عن السياسة الخارجية، وما كاد ينتهي المستر بيفن من خطابه وينقله البرق إلى مختلف الأنحاء حتى كان المسيو بيدو ينطق بالهراء من القول، والسخيف من الرأي قائلا لزملائه الوزراء في باريز (إن وضع الانتدابات الفرنسية في إفريقيا تحت إشراف مجلس الوصاية التابع لمؤسسة الأمم المتحدة سيكون تقهقرا إلى الوراء، لأن تلك البلدان قد تقدمت وتفوقت على غيرها، ودليل ذلك أن لها ممثلين في المجلس التأسيسي الفرنسي؟)، فصدق عليه المثل العربي القائل: (سكت ألفا ونطق خلفا).
أين أين المسيو جاكينو والمسيو بيدو من المستر بيفن والمستر بيرنس؟ لماذا هذه السفسطة والسخافة بالنسبة إلى (بلدان الانتداب) الفرنسي؟ ولماذا هذا الصمت المفتعل إزاء مصير الشعوب المغربية التي يسمونها (بلدان الحماية) في شمال إفريقيا؟ لماذا هذا الجبن عن مواجهة الحقائق القائمة؟ متى يا ترى توجد عند الجمهورية الفرنسية الرابعة تلك الشجاعة الكافية التي تصفي بها تركة الجمهورية الثالثة؟
وإذا كانت أمريكا وانجلترا تتقدمان إلى الأمم كلها بميثاق الديموقراطية، وتضربان المثل بما تعاملان به الغير من مساواة واستقلال وحرية، فماذا تنتظر فرنسا لتقلدهما على الأقل وتسير وراءهما في نفس الاتجاه؟
وهل تظن فرنسا أن (الشرق العربي) الذي تعطف عليه الديموقراطيات الكبرى أصدق العطف بعدما تحرر واتحد وأصبح جزء لا يتجزأ من مجموعة الأمم المتحدة، ودخل ممثلوه في أهم المجالس واللجان التابعة لهذه المؤسسة العالمية الكبرى سيغض الطرف عن قضية (المغرب العربي) حبا في زرقة عيون فرنسا والفرنسيين؟ ألم يسمع قادة فرنسا تصريح الدكتور عبد الرحمان عزام باشا أمين الجامعة العربية عن رأي الجامعة في مستقبل الجزائر وتونس والمغرب وتعضيدها لهذه البلدان تعضيدا تاما؟ (…).
ألا يوجد من بين الفرنسيين رجل رشيد يذكرهم بميثاق الأطلنطي وتصريح الأمم المتحدة الأول، وميثاق الأمم المتحدة الأخير؟ ويعرفهم بأن هذه المواثيق لم تعلن للبشرية لتظل حبرا على ورق؟ وإنما أعلنت لتطبق في أوسع دائرة ممكنة وعلى أكبر عدد من بني الإنسان؟
إن مغاربة الشمال الإفريقي الذين ضحوا بزهرة شبابهم وجميع مواردهم في سبيل نصرة الديموقراطية الصحيحة حتى كانت بلادهم مهد النصر الأول لن يستريحوا على مضاجعهم، ولن يطمئنوا على مصيرهم، إلا إذا فارقوا هذه الوضعية الشاذة، ودخلوا من جديد في حظيرة الآدميين الأحرار.
هذه إرادتهم وهذه عقيدتهم ولن يردهم عن بلوغ ما يريدون وعد ولا وعيد، ولا مساومة ولا تهديد، فمتى تفتح فرنسا عينها على الحقيقة؟ أم يصدق عليها المثل القائل: (إذا نزل القدر عمي البصر)؟ وبعد:
فالليالي كما علمت حبالى***مقربات يلدن كل عجيب