مخالطة الأخيار ومجانبة الأشرار
الحمد لله الذي أمر بمخالطة الأخيار، ومجانبةِ الأشرار، وبغَّض الأراذل وحبَّ الأبرار، نشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، العظيم الحليم، ونشهد أنّ سيّدنا محمداً عبدُه ورسوله، الرؤوف الرحيم، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم من صالح المومنين إلى يوم الدين. من يطع الله ورسوله…
أما بعد: فإنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد…
. قال الله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون). وقال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا). وقال تعالى في توجيه خليلِه صلى الله عليه وسلم: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء، ولكن ذكرى لعلهم يتقون).
أيها المسلمون: الأخيار والأشرار، هما العنصران المهمان، في تعديل سلوك الإنسان واعوجاجه، وانحرافه واستقامته، وحسن أخلاقه وقُبحها، وفساد طباعه وصلاحها؛ لأن التَّقليد والمحاكاة والتأثر، غريزة مشتركة، وطبيعة مُشاعة بين الناس، ونتيجة محتومة للمخالطة، فإنَّ الطبع للطَّبع سارق، ومع من تكون، بحاله تكون، وفي الحكم المأثورة: (من خالط قوما أربعين يوماً تخلّق بأخلاقهم، أحبَّ أم كره). وهذه المدةُ أقصى زمان الانصباغ، والتأثر للطباع المعتدلة، وقد تحصُل النَّتيجة في أقلّ من هذه المدة.
وقد اعتنى العلماء والحكماء قديماً وحديثاً، بقضية الاختلاط والقُدوة، وخَطَرها في التربية [القويمة]، فأجمعوا على لزوم الاحتكاك بالأخيار، وإدامة مخالطتِهم، وكثرة مُجالستهم، والحرص على صحبتهم، للاقتداء بهم، والسير على منهجهم، والتخلق بأخلاقهم، وهم القوم الذين لا يَشقى بهم جليسهم، الذين طهرت قلوبهم، وزكت نفوسهم، وحسنت أخلاقهم، وصلحت أعمالهم، فلا يدلون إلاَّ على خير، ولا يصدُر منهم إلاَّ جميل، كما اتَّفقوا على وجوب مجانبة الأشرار، والابتعاد منهم، وهجرهم، لخطرهم على دين المرء ودنياه، خصوصاً الأطفالَ والشباب، فإنَّهم أسرع تأثراً، وفساداً وتضرّراً، وبالأخصّ الفتياتِ والبنات، لما رُكّب في طباعهن من فرط الإحساس، ورقة الشُّعور، وسرعة الانخداع والاغترار، وسهولة الانسياق والوقوع في الشرك، كما هو مُشاهد ملموس.
ولقد تهاونَ النَّاس بهذا الأمرِ وأهملوه، واحتقروه وأغفلوه، حتى استفحل الدَّاء، وعزَّ الدواء، وساعد على هذا الوباء، انعدام التَّربية الإسلامية من البيوت والمدارس، وفسادُ المجتمع، وقلة مبالاة المسؤولين بما يؤول إليه الأمر، وينتهي إليه التفريط، وهو بالا شكّ السقوط المحقَّق، والهلاك المحتَّم.
وإذا أصيب الناس في أخلاقهم — فأقم عليهم مأتماً وعويلا
من المعروف المُشاهد، أنَّ الأولاد والشّباب فسدت أخلاق جمهورهم، وتدنست طباعهم، فساء نطقهم، وقبُح فعلهم، فلا تسمع من أفواههم إلاَّ الفُحش والخنا، وما لاَ عهد لنا به معروفاً لصغار الأطفال، ولا ترى من أفعالهم إلاّ لعب القمار، والازدحام على دور السينما والمسارح، والمشابكة والمضاربة، والألعاب الضارة، والتّدخين، والسكر، وقد رأينا منهم أطفالاً يدخنون الكِيف، ويأكلون الحشيش، ويشربون الخمر، وأعمارُهم لا تتجاوز عشر سنوات، وهذا إنما جاءهم من الاختلاط بالفُجار والأشرار، الذين يكثُر عددهم، ويستفحلُ ضررُهم بيننا يوماً بعد يوم.
أمَّا فتياتنا وبناتنا، فحدّث عن المَسخ ولا حرج، ولا تسع خطبةٌ ولا محاضرةٌ ولا درسٌ، شرحَ مأساتهنَّ التي تُبشّر طلائعُها بمستقبل جدّ مظلم، ومصيرٍ مفزعٍ مُحزن، الفتاة -حفظنا الله وإياكِ من الشرور والفتن- موضع السرّ، ومكان الحرث، ومباءة الولد، وحرز الكرامة، ووعاء الخير والشرّ، والمدرسة الأولى للتوجيه، وهي في رقَّتها وسرعة انفعالها، وفرط تقلّبها، وسهولة انخداعها، وتوقّع انسياقها، مضربَ المثل، وقد سمّاهن الشّرع القوارير، تشبيهاً لهنَّ بالزجاج في ضعفه، وشفافيته، وسرعة تكسره، وفوات إصلاحه إذا انكسر، وأدنى تهاون بأمرهن، خصوصاً الصغيرات منهن، يفضي إلى أوخم العواقب، وأقبح النّهايات.
وكم رأينا وسمعنا من يتجرعون مَرارة الشكوى ويبتلعون غُصص الحسرة والندامة، على ما آل إليه أمرُ فتياتهن أو نسائهن، اللائي تساهلوا معهن، وفسحوا لهن المجال، ووفَّروا لهنَّ نصيبهنَّ من الحُرّية التي أساء النّاس فهمها، واستعمالها، فأُفلت الزِّمام من يدهم، ووقفوا ينظرون ما يُدمي قلوبهم، ويُبكي عيونهم، ويُقض مضاجعهم، فمنهم من هربت زوجته مع صاحبها، وتركته مع أولاده في حرمان وضياع، ومنهم من حَبلت بنته من زنا، ومنهم من اختُطفت من داره، ومنهم … ومنهم… مما يعرفه الناس، ويعلمون أنّ مردّه إلى الإهمال والتّفريط، وعدم المراعاة، والتّغاضي عن الاختلاط الشائن، وسوء الخُلطة، وخُلطاءُ السوء، وأقرانُ الشّر، لا بُدَّ أن ينال المرءُ من شرهم قليلاً أو كثيراً، على حسب طُول الاختلاط أو قصره، وقوَّة الاستعداد أو ضعفه.
وقد ضَرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل لذلك فقال فيما يرويه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك – يُعطيك – وإمّا أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة).
وفي رواية أبي داود عن أنس: (مثل الجليس الصّالح، كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثلُ الجليس السُّوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه).
هذه أيّها المسلم، بعضُ التّعاليم الإسلامية فيما يتعلّق بهذا الموضوع الخطير، فاعرِض نفسك عليها، وحدّد موقفك منها، واعلم أنك مسؤول أمام الله، عن نفسك ورعيتك، وأنّ هذه المسؤولية ثقيلة جدّاً في هذا الزمان، الذي كثُر شره، وقلَّ خيره، ولا يخفاك يا أخي أنَّ هذه المصائب ستزداد شِرَّتها، وتستعر، نارُها، فيضيق الخناق على الإنسان، حتى يصير المتمسّك بدينه في زمنها كالقابض على الجمر، وحتى يمرّ الإنسان بقبر أخيه فيقول: يا ليتني مكانَك، ممّا يعاني من الشّدائد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فتمسّك بالصَّبر، والجأ إلى الله في الشدة، فإنَّ الله جاعلٌ لك فرَجاً ومخرجاً، إن صدقَت نيَّتُك، وصفت طاعتك، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلّها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.