السلفية وسطية أم تطرف ..؟ -3- حمّاد القباج

بين السلفية والسلفيين

تحدثنا في الحلقة السابقة عن ماهية السلفية وأصولها وأركانها؛ وأنها منهاج رَسمتْ صورته النصوص الشرعية..
أما السلفيون؛ فهم المنتسبون إلى ذلك المنهاج، وهذا الانتساب لا يعني أبدا العصمة، ولا السلامة من الخطأ والزلل.
بل إن في أولئك المنتسبين؛ الصادق المخلص والمدعي الكاذب..
والصادقون؛ فيهم العالم وطالب العلم والجاهل، وفيهم حَسَن الخلق وسيء الخلق، وفيهم جيد الفهم وصاحب الفهم السقيم أو الضعيف؛ وينطبق على الجميع قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]
والفرق بينهم وبين غيرهم من المسلمين أنهم ينتسبون إلى السلف الصالح، في حين ينتسب غيرهم إلى شخص أو مذهب أو جماعة؛ فالصوفي مثلا ينتسب إلى طريقة من الطرق الصوفية يرى أنها تحقق له السمو الروحي، والمعتزلي ينتسب إلى طائفة المعتزلة التي يظن أنها تفهم الإسلام في ضوء العقل؛ فهي بالتالي تشبع ميولاته العقلانية، والأشعري ينتسب إلى منهاج أهل الكلام في تقرير المعتقد الذي كان عليه الإمام الأشعري في إحدى مراحله الفكرية، ويرى هذا المنتسب أن هذا يحقق له وسطية واعتدالا..
أما السلفي فإنه ينتسب إلى السلف الصالح ويتمسك بمنهاجهم في الفهم وممارسته للتدين؛ وهذا يحقق له السمو الروحي، والانسجام بين دلالات النص الشرعي ومقتضيات العقل المرعي، كما يجعله على طريق الاعتدال والوسطية حقا وصدقا؛ لأن السلف الصالح وأتباعهم (أهل السنة والجماعة أو السلفيون) كانوا دائما عَلما على الوسطية بين فرق المسلمين كلها.
فالسلفي يمتاز بأنه يجمع الصواب الموجود عند الطوائف الأخرى، ويسلم من أخطائها؛ وذلك بقدر صِدقه في الانتساب إلى السلفية، وبقدر اجتهاده في الترقي في سُلَّمَي العلم والعمل.
وبقدر التقصير في مقتضيات الانتماء ومستلزمات الانتساب؛ بقدر ظهور الخلل في فكر السلفي المنتسب وسلوكه، وبقدر ضعف إحدى قوتيه العلمية أو العملية بقدر وقوعه في أخطاء القول والفعل.
ثم إن هذه الأخطاء قد تكون زلّة عالم، أو اجتهادا مخطئا، أو انحرافا سلوكيا نحو الغلظة وسوء الخلق، أو انحرافا نحو الغلو والتشدد.. إلـخ.
ومن هنا ينبغي اجتناب الحكم على السلفية من خلال ممارسات المنتسبين إليها، وينبغي على الناقد أن يفرق بين السلفية كمنهاج، والتي لا يصح في العلم إلا الإقرار بأنها واجب شرعي سار عليه أهل السنة والجماعة طيلة تاريخ الأمة، وبين ممارسات السلفيين التي تقبل النقد والتصحيح بالعدل والحق، مع دوام استحضار الفرق الجوهري بين المنتسب إلى السلفية والمنتسب إلى غيرها.
وعليه فإن من الخطأ المحض ما نسمعه ونقرأه من أن السلفية أنواع؛ وأنها تنقسم إلى سلفية عقلانية وسلفية وهابية، وإلى سلفية وطنية وسلفية حنبلية، واشتهر عندنا في المغرب تقسيمها إلى: علمية وتقليدية ووطنية ومغراوية وجهادية… إلـخ.
فالسلفية واحدة، وهي حق مطلق، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والحديثية .
والمنتسبون إليها يتنوَّعون بتنوع حجم إدراكهم العلمي والتزامهم العملي، ومدى تمسكهم بأصول السلفية ومبادئها.
ومن هنا فإن سلفية كل منتسب -أيا كان- تبقى نسبية، وتتفاوت درجات هذه النسبية من شخص إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى.
وقد تقتضي الأدلة الشرعية الحكم بخروج المنتسب عن السلفية؛ وأنه لا يصِحُّ وصفه بالسلفي، أو المتبع للسلف الصالح..
وهذا إنما يصح من العالِم العادل الذي استوفى شروط الأهلية في هذا الباب؛ فهي كباقي الأحكام الوعيدية؛ من تكفير وتبديع وتفسيق، بل الحكم بالخروج من السلفية هو في حد ذاته حكم بالتكفير أو التبديع أو التفسيق..
أما مشروعية الجهر بالانتساب؛ فتابعة لقصد صاحبها؛ فتشرع –مثلا- للتمييز بين مسلك الاتباع الواجب شرعا ومسالك الابتداع، وتمنع إذا كانت على وجه تزكية النفس بغير مسوغ شرعي، أو على وجه الادعاء الكاذب وتشبع الإنسان بما لم يعط..
أما قول بعضهم: “ولم لا نقتصر على الانتساب إلى الإسلام؟”
فالجواب أن السؤال خطأ من أصله؛ إذ إن الإسلام هو الدين، أما السلفية فهي الطريق الصحيح لفهمه بين طرق ومناهج أخرى..
فنحن جميعا ننتسب إلى الإسلام، لكن ما هو المنهاج الذي نتبعه لفهمه والعمل به؟
وفي ختام هذه الحلقة أحب الإشارة إلى التحامل الظاهر والمواقف العدائية التي اتخذها بعض من يشتغل بالعلوم الشرعية وعدد من السياسيين والإعلاميين والكتاب من السلفية، ومن الشباب السلفي، الذي مهما وقع فيه من أخطاء؛ يبقى أولى من غيره بالعدل والرفق والنصح الجميل..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة/8]
والعجيب أن هذه المواقف برزت وتفشت مباشرة بعد تبني الغرب سياسة التضييق على السلفية؛ باعتبارها مغذيا للإرهاب فيما زعموا، وباعتبارها –في حقيقة الأمر- المنهاج الصحيح لفهم الإسلام الذي لم تكن الحرب على الإرهاب إلا حربا عليه وعلى المتمسكين به..؛ حيث لا يعقل شن حملة عدائية إقصائية ضد الدعوة السلفية، وإغلاق مدارسها وقنواتها وفصل خطبائها والتضييق على دعاتها، بسبب أخطاء أو انحرافات بعض المنتسبين إليها أو المحسوبين عليها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن كثيرا من التوجهات التي استهدفت نقد السلفية؛ وقعت في أخطاء لا بد أن تصحح عند من أراد أن يفهم حقيقة السلفية وتقييم الحكم بأنها منهاج شرعي لازم لكل مسلم؛ وجماع هذه الأخطاء:
الأول: سبقت الإشارة إليه؛ وهو الخلط بين السلفية والمنتسبين إليها.
والثاني: الجزم بالحكم على بعض ما تتبناه الدعوة السلفية من مواقف أو أحكام بالتشدد والغلو في الدين.
وهذا هو ما نهدف إلى معالجته في هذه السلسلة..
وبناء عليه؛ سنتناول –إن شاء الله- في الحلقات القادمة بعض النماذج لأخطاء أو انحرافات وقع فيها منتسبون إلى السلفية أو منسوبون إليها، ثم نتناول بالبحث والدراسة المسائل التي يرى البعض أن موقف السلفيين منها فيه تشدد وتطرف، بعد أن نمهد بمقدمات في بيان حقيقة الوسطية الشرعية، ومعيار الحكم على الشيء بالوسطية أو التطرف..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *