إنه محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وسيد الأصفياء؛ بعثه الله تعالى على حين فترة بشيرا ونذيرا؛ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ فأحيا نفوسا ميتا؛ وفتح قلوبا غلفا؛ وأسمع آذانا صما؛ وبصّر عيونا عميا.
ملأ الدنيا عدلا، وبسط على الخلق حلما، وأفاض على البرية كرما، فتهاوت القلوب على حبه كتهاوي الجنادب على النار، وتفانت الأيدي في خدمة الجناب الشريف، وقدمته القلوب في الولاء على النفس والقريب والحليف، تأبى أعينهم إشباع النظر إليه حياء، وتخفت أصواتهم عنده استحياء، وتخضع الرقاب من هيبته انحناء، وتتسمع آذناهم لهديه ارتواء، فني القوم في حبه لِما رأو من حلمه وصبره ورفقه ووقاره وسخائه، وحرصه على هداية الخلق، واستماتته في نشر الحق، وعفوه على الظالم، وإقباله على القادم، وبذله للسائل، وإكرامه للمائل، وكسبه للمعدوم، وعطفه على المحروم. لم لا يحبوه ويقتدوا بهديه؛ وقد كان سببا لهم في الهداية بعد الضلال، والعزة والرفعة بعد الذلة والهوان.
حرص على الهداية رغم الإذاية
كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يبخع نفسه حزنا على من لم يؤمن، وفرقا على من لم يسلم، فيواسيه الباري جل في علاه {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، ما هذا الحرص على قوم حاصروه وجفوه وطردوه، ورموا على رأسه سلى الجزور، وأغروا به سفهاءهم، وتآمروا عليه وبيتوا قتله بليل، وحرضوا عليه القبائل، وألبوا عليه العشائر، وحذروا منه الحواضر والقرى والمداشر، واتهموه بكل النقائص؛ فقالوا كاهن وساحر، ومفتر وشاعر، ومختلق ومجنون… وغير هذا من أوصاف وأصناف الأذى الذي كان يقابله الحبيب بالحب، ويبارزه الحليم بالحلم، ويبادله الكريم بالصفح، ويقول “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وأخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا”. إنه الحليم الذي لا يسبق جهله حلمه؛ ولا يزيده الجهل إلا حلما؛ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
مهما عددنا شمائله، ونثرنا فضائله، وبينا محاسنه، فلن نوفيه قدره، ولن نزيد شيئا بعد الذي قاله الله فيه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فقد جمع الله له في الوصف بما لا يدع لقائل مقالا، ولا لواصف مجالا، فكفانا عن ذلك قيلا وقالا. فما بعد هذا لمنتقص سبيلا، ولمسيء مقيلا، ولا لمصور تخييلا، ولا لمخرج مأفون تمثيلا، فمهما بلغت قدرتهم على النيل من أحد والإساءة إليه، فتالله لن يكون فعلهم هذا اتجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا:
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وإنكم يا أوغاد الإساءة لن تضروا رسول الله بقول معيب أو فعل حقير فإنه ما ضر الفرات أن ولغت الكلاب فيه، وما ضر السحاب نباحها، فاخسئوا شاهت وجوهكم.
فإذا تبين أن النفوس كلما أعجبت بشخص مالت إلى تقليده كلا أو جزء، فإن رجلا بهذا القدر وعلى هذا الوصف، لهو أحق أن يكون قدوة ونبراسا يضيء الطريق للسائرين، ويطمئن نفوس الحائرين. ولكن الجهل بالشيء يجعل المرء يعاديه أو لا يعرف قدره. ومن عرفوا قدر نبينا صلى الله عليه وسلم فقد كانوا هم أيضا نبراسا في حسن التأسي والاقتداء، فرضي الله عنهم وأعزهم، ومكن لهم وأذل رقاب أعدائهم.
فمن قرأ سيرهم ومواقفهم في حسن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم يرى العجب العجاب، ويرى بمنتهى الإعجاب صدق المحبة من ذلك الجيل لنبي الرحمة والهدى، واقرأ عن ابن عمر مثلا وهو ينحني عند غصن شجرة ليس لأنه قد خاف إذايته وهو بعيد عنه كل البعد، وإنما اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه ينحني في ذلك الموضع، ليس تنطعا ولكنه الحب وقمة التأسي الذي يصرفه أهل الأهواء لغير من هو أحق به وأولى.
ولن تتحقق أمانينا ونحن نعلم من حياة أناس يمثلون القمة اليوم في ميادين مختلفة بعضها لا يخرج عن دائرة العبث والاستهتار وضياع الجهد يعمل ويعلم ما لا يعلمه عن سيد ولد آدم مع شرف النسبة وزعم المحبة وادعاء التعظيم والتوقير.
لذلك كنا أبعد عن التأسي مما أبعدنا عن العزة؛ مما جعلنا نعيش الذلة وبرضى وطيب نفس تشيب له الولدان ويتعجب له العقلاء ويحتقرنا به البلهاء، ولن يغير من واقعه الدهماء، فيشمت بنا الذين اطلعوا على الكنز الذي وهبنا الله إياه، فلم نقدره حق قدره ولم نعرف له فضله.
وفي انتظار صحوة بعد غفلة ويقظة بعد سبات نسأل الله الفرج من عنده.