هل صحيح أن العلمانية لا تحارب الأديان؟ (2) د. محمد وراضي

ليفتح من يجادلوننا، باعتبارنا خصوما صرحاء للعلمانية، الأناجيل الأربعة المعروفة، فإنهم متى فتحوها لن يجدوا فيها أحكاما شرعية عملية، تصلح لتنظيم الناس في مجتمعات أو في دول! وحتى يتأكد صاحب المقال وقراء المقال مما ندعيه، فليصغ إلى الشهرستاني (479-548 هجرية) صاحب كتاب «الملل والنحل» وهو يتحدث عن النصارى فيقول: «والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام، لا يتضمن أحكاما، ولا يستنبط حلالا ولا حراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ ومزاجر»، بحيث إن النصارى الذين اعتنقوا الدين الذي جاء به سيدنا عيسى، كانوا في الأغلب الأعم من رعايا الإمبراطورية الرومانية، وهذه الإمبراطورية لها قوانينها التي جرى العمل بها لقرون قبل ولادة السيد المسيح، وهي نفس القوانين المعمول بها، والرسالة المسيحية قد حلت محل الديانة الوثنية على المستوى الرسمي والشعبي في الغرب كله. وهذا ما يفسر جانبا من جوانب إصلاحات شارلمان في ميادين التشريع والقضاء والإدارة؛ ومن ذلك أنه «استحدث كثيرا من التشريعات لإقرار النظام الإداري، وتنظيم العدالة والمحاكم عن طريق تقوية العنصر الشعبي في دور القضاء. كذلك أمر شارلمان عام 801م بتدوين التراث التشريعي القومي لمختلف العناصر التي تألفت منها إمبراطوريته».
مما يدل دلالة قاطعة على أن النصوص التشريعية النقلية غير موجودة إطلاقا في القانون الروماني! ولا صح أنها حلت محله في فترة زمنية من فترات تاريخ أوربا العصور الوسطى! وإنما الموجود هو الكهنوت الذي جرى ابتداعه بمناسبة شرح كبار الرهبان للإنجيل! وهو شرح لا يختلف عن «التلمود» عند اليهود، وعن «الفكر الظلامي الطرقي والقبوري» لدى المسلمين. إنه فكر يطل من ورائه الكهنة كلصوص وكمجرمين، لهم قدرة فائقة على الخداع والتحكم حتى في رقاب كبار الحكام كملوك وأباطرة وأمراء! يعني أن كهنوت رجال الدين المفسرين للإنجيل حسب أهوائهم الشخصية، هو الذي جرى فصله كسلطة روحية عن السلطة الزمنية. ومن نماذج الكهنوت باختصار شديد ما يلي:
إن البابا وحده «هو الذي يتمتع بسلطة عالمية! وهو وحده يمتلك سلطة تعيين الأساقفة أو عزلهم متى أراد! وجميع الأمراء العلمانيين، يجب أن يقبلوا قدم البابا وحده! وللبابا وحده الحق في عزل الأباطرة! ولا يجوز عقد أي مجمع ديني عام إلا بأمره! كما أنه ليس لأي فرد أن يلغي قرارا بابويا، في حين أنه من حق البابا أن يلغي قرارات بقية الناس! إنه لا يسأل عما يفعل، ولا يحاكم على تصرفاته! كما أن له أن يجيز لرعايا أي حاكم علماني التحلل من العهود وأيمان الولاء التي أقسموها لحاكمهم»!
وهكذا نجد كيف أن «جريجوري السابع آمن إيمانا قويا بأن البابا له السلطة العليا في حكم المجتمع المسيحي، وأنه يعزل الملوك والأباطرة بوصفه نائبا عن القديس بطرس. فإذا امتنع حاكم علماني عن تنفيذ تعاليم الكنيسة، فإن لها أن تحاربه بالأسلحة الروحية والمادية. وبعبارة أخرى، فإن جريجوري السابع رأى أن الطريق الوحيد لإصلاح العالم وتخليصه من الفوضى والشرور، هو إخضاعه للكنيسة! وإخضاع الكنيسة للبابوية؛ لذلك وجه جريجوري السابع مجمع روما الديني سنة 1075م (467 هجرية) نحو اتخاد قرار حاسم بشأن التقليد العلماني، هذا نصه: إن أي فرد من الآن فصاعدا يتقلد مهام وظيفته الدينية من أحد الحكام العلمانيين، يعتبر مطرودا من هذه الوظيفة، ومحروما من الكنيسة، ومن رعاية القديس بطرس! وإذا جرؤ امبراطور أو ملك أو دوق أو كونت، أو أي شخص علماني على تقليد أحد رجال الدين مهام وظيفته الدينية فإنه يحرم فورا من الكنيسة»!
مما يتضح معه أن رجال الدين في الغرب العلماني الذي لم يعتمد الأحكام الشرعية قط، رافقهم التطلع إلى إخضاع العالم المسيحي برمته لتصوراتهم ولقراراتهم التي لم يتم التنصيص عليها في الأناجيل الأربعة!!! إنها كلها بمثابة المبتدعات عندنا نحن المسلمين! هذه التي يقف في طريق انتشارها والترويج لها علماء متسننون، لا يمكن لنا حصر أسمائهم في عجالة من القول، فضلا عن كون الشكل الذي عرفته المسيحية في الغرب قبل عصر النهضة لم يعرفه العالم الإسلامي قط! يكفي أن الحكام أنفسهم طالما كانوا علماء، أو مشاركين للعلماء في معالجة قضايا لها صلة مباشرة بتسيير الشؤون العامة، من خلال الإفتاء وفقه النوازل، أي أنهم لم يشكلوا مؤسسة كبرى يندرج تحت سلطتها أتباع يحملون ألقابا مختلفة، كما حصل في المؤسسة الكنسية!
فبات معروفا بأن هناك بونا شاسعا بين رجال الدين في الغرب والعلماء في العالم الإسلامي منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن. فإن لم يكونوا بالكلية مجرورين تابعين مؤيدين للحكام في السراء والضراء بفعل القهر، فإن فيهم معارضين كبارا تعرضوا للضرب والقتل والنفي والمضايقات؛ فصح أن العلماء هم الذين كانوا ولا زالوا ضحية الحكام! بينما الحكام لم يكونوا ضحية العلماء!
فأن نتحدث عن فصل الدين عن الدولة في الغرب الأوربي بعد قرون من الجهل مظلمة، فأكذوبة فندناها ونفندها بأدلة قاطعة! كيف أن مسمى الدين الذي زعم الأوربيون فصله عن الدولة، لا يمت إلى ما ورد في الأناجيل الأربعة المحرفة بأية صلة! وهذه الحقيقة الدامغة لم نقف نحن وراء إحداثها لمجرد أننا نعادي العلمانية والعلمانيين، وإنما صرح بها وفضحها واستنكرها أهل مكة العارفين بشعابها قبلنا! فالأناجيل في واد، وكهنوت الرهبان والقساوسة في واد آخر، والحكم في هذه الواقعة هو الإنجيل ذاته! ففرق بين أن نقرأ القرآن والأحاديث النبوية، فنقف فيهما على الأحكام الشرعية العملية، وبين أن نقرأ الإنجيل ولا نجد فيه غير الوصايا، والمواعظ، والأخلاقيات، والتوجيهات، وسيرة موجزة مركزة لسيدنا عيسى عليه السلام! فضلا عن كون القوانين الوضعية العلمانية هي التي سادت في الغرب كما تقدم قبل ظهور السيد المسيح نبيا ورسولا، بل حتى بعد انتشار الرسالة المسيحية في أوربا بكاملها.
وهنا نتحدى أي مؤرخ في العالمين العربي والإسلامي، أن يدلنا على مجموعة قانونية غربية هي عبارة عن أحكام شرعية مصدرها أحد الأناجيل الأربعة! غايتها تنظيم العلاقات العامة والخاصة في المجتمع المسيحي على وجه التحديد! فإن قدمنا نحن كتاب الله وقدمنا سنة نبيه في مؤلفات حديثية متنوعة، ثم قدمنا إلى جانبها ومعها مجموعة ضخمة من المؤلفات الفقهية كـ«موطأ» مالك و«المدونة الكبرى» لسحنون القيرواني، وكتاب «الأم» للشافعي؛ فما الذي يقدمه الغرب إلينا للتدليل على أن الاحتكام إلى الشرع المسيحي جرى به العمل لقرون تلو قرون؟ كل ما يستطيع الغرب المسيحي تقديمه هو مؤلفات تتحدث عن القانون الروماني وتؤرخ له! يعني بصريح العبارة أن العمل بالقانون الوضعي هو الذي جرى والمسيحية المحرفة ضاربة بجذورها في القارة العجوز!
إننا إذن بفصيح الكلام العربي أمام مجرمين جعلوا من كهنوتهم الظلامي، لا من فحوى الأناجيل التي تم لهم تشويهها، مصيدة لاستغلال ملايين المواطنين من الأوربيين ومن غير الأوربيين من الولايات الرومانية الشاسعة الأطراف! والمجرمون في الحقيقة لا بد من معاقبتهم لتوغلهم اللامشروط في الظلم والطغيان والتجبر الذي يتنافى والقيم الإنسانية التي مجدتها الرسالات السماوية جميعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *