إذا الشعب يوما أراد الحياة

في خضم الثورات والمظاهرات التي عرفتها العديد من الدول العربية رفعت بعض  الشعارات رددها جموع المتظاهرين والثوار من غير وعي وإدراك لمعانيها ومدلولاتها؛ إذ يستحيل في حق مسلم يعلم ما يتوجب عليه تجاه ربه أن يتفوه بها؛ ومن تلكم الشعارات قول الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي في قصيدته:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة      فلا بد أن يستجيب القدر

فأبو القاسم الشابي كما هو معروف عنه شاعر الاكتئاب والتشاؤم في العصر الحديث، فمعظم شعره يدور حول كرهه للحياة أو التحدث عن مآسيها، وكثرة الاعتراض على أقدار الله، إضافةً إلى تشاؤمه الواضح لكل مطلع على آثاره.
وقد أصابه المرض مبكراً، وتحمل أعباء الحياة بعد موت والده، ولكونه لم يلتجئ إلى الله -عز وجل- في محنته، إنما تبرم وتسخط من القدر، وغاص قلبه في الاكتئاب والتشاؤم، كل هذا أداه إلى أن يشطح شطحة لا تصدر عن مسلم، وهي تشككه في وجود الله سبحانه وتعالى!!
يقول الدكتور عمر فروخ في كتابه “الشابي شاعر الحب والحياة” ص:139: “لما أفاق الشابي من النوبة الشديدة التي انتابته عام 1930، نظم قصيدته “إلى الله”  فشطح فيها شطحة هي الإلحاد؛ قال:

خبّروني هل للورى من إلهٍ    راحم -مثل زعمهم- أواه!
إنني لم أجده في هاته الدنيا    فهل خـلق أفقها من إله؟

وقال الدكتور عمر فروخ في الكتاب نفسه (136-137): “إذا نحن تأملنا بيئة الشابي العامة في تونس ثم بيئته الخاصة فهو ابن قاض شرعي وخريج الجامعة الزيتونية، عجبنا لإمحاء الأثر الإسلامي في ديوانه، ثم نزيد تعجباً إذا رأينا الأثر الوثني شديد البروز في شعره. إن أول ما نلاحظه أن الألفاظ الدينية قد خسرت في شعر الشابي قدسيتها ودلالاتها المألوفة، فالله والنبي والصلاة والجحيم أصبحت عند الشابي كلمات عامة كسائر الألفاظ القاموسية الدائرة في الاستعمال اليومي”.
“فقد كان الشابي متشككا في العقيدة، ضعيف التقوى، كثير الاعتراض على أقدار الله تعالى.
من ذلك قوله: لتعس الورى شاء الإله وجودهم، صانكن الإله من ظلمة الروح، وتشدو كما شاء وحي الإله، فالنور ظل الإله”.
ومنها أيضا قوله:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة     فلا بد أن يستجيب القدر

وهذا البيت ينافي عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر التي هي ركن من أركان الإيمان، إذ كما هو معلوم فإن إرادة البشر تابعة لإرادة الله تعالى وليس العكس، قال الله تعالى: “وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (التكوير:29)؛ وقال سبحانه: “وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا” (الفرقان:2).
وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة”؛ ولكن هذا لا ينافي الأخذ بالأسباب والعمل بجد واجتهاد، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اعملوا فكل ميسر لما خلق له” متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل” رواه الترمذي وحسنه الألباني، فالعمل من تمام التوكل على الله..
قال الحافظ : قال الكرماني: (القدر: حكم الله.. فالقدر سرّ من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يَعلمه نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرب) انتهى من كلام السمعاني.
ولا يتم الإيمان بالقدر إلا باجتماع أربع مراتب وهي:
1- العلم: وهي الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؛ وأن الله قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون بعلمه القديم وأدلة هذا كثيرة منها قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (الحشر:22)، وقوله تعالى: (وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْما) (الطلاق:12).
2 ـ الكتابة: وهي الإيمان بأن الله كتب مقادير جميع الخلائق في اللوح المحفوظ؛ ودليل هذا قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:16).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة” (رواه مسلم:2653).
3 ـ الإرادة والمشيئة: وهي الإيمان بأن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يخرج عن إرادته شيء.
والدليل قوله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الكهف:23-24) وقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29).
4 ـ الخلق: وهي الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه، لقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الزمر:62). وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) (الصافات:96).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يصنع كل صانع وصنعته” (أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد وابن أبي عاصم في السنة  257 وصححه الألباني في الصحيحة ح:1637) .
يفهم من ذلك كله أن بيت أبي القاسم الشابي فيه انحراف عقدي خطير؛ وتأل على رب العالمين جل جلاه، وكأن إرادة الشعوب تفوق إرادة الله!! -عياذا بالله-؛  فالخلق هم الخاضعون لمشيئة الله عز وجل، وليس قدر الله الذي هو إرادته ومشيئته من يخضع لإرادة البشر، “وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (التكوير:29).
ورحم الله الإمام الشافعي إذ قال:

دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ     وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي    فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقــاءُ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *