نــعـمـــــة العـلمــــــاء (واجبنا نحو هذه النعمة) عبد القادر دغوتي

1 ـ أن نسلك الطريق إليهم ونجالسهم ونتعلم منهم:
أوجب الله علينا أن نقصد العلماء ونتعلم منهم العلم النافع الذي نُصحح به عقيدتنا وعبادتنا، ونعرف به حدود الله وحقوقه علينا، ونسترشد به في دنيانا، فنسعد في معاشنا ومعادنا.
وقد قص علينا اللهُ تعالى في قرآنه الكريم قصة نبيه موسى عليه الصلاة والسلام الذي خرج في طلب العلم مصطحبا فتاه، قاصدا الرجل العالم الذي أخبره الله تعالى بأمره ودله على مكانه، قال سبحانه: “فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناهُ من لدُنا علما، قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا” (الكهف:64ـ65).
وذلك الرجل هو الخضر عليه السلام، وكان عبدا صالحا لا نبيا على الصحيح، وقد أعطاه الله رحمة خاصة، بها زاد علمه وحسُن عمله، وأعطي من العلم ما لم يُعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية والأصولية؛ لأنه من أولي العزم من المرسلين الذين فضلهم اللهُ على سائر الخلق، بالعلم والعمل وغير ذلك1.
– وفي هذه القصة دليل على وجوب طلب العلم والاستزادة منه، وقصد العلماء للتعلم منهم.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”2.
وقال عليه الصلاة والسلام: “من خرج في طلب العلم؛ فهو في سبيل الله حتى يرجع”3، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من سلك طريقا يبتغي فيه علما؛ سهل اللهُ له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع…” 4.
فالواجب علينا نحو العلماء؛ أن نقصدهم ونسألهم عما نجهله من أمور ديننا؛ قال تعالى: “فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (الأنبياء7)، قال الشيخ السعدي: “وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر، وهم أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله
وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمها، ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه، وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم، نهي عن سؤال المعروف بالجهل، ونهي له أن يتصدى لذلك”5.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “شفاء العي السؤال”6، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن
الدين ويتفقهن فيه”7، وعن علي رضي الله عنه أنه استحيى أن يسأل عن المذي لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابنته التي كانت عنده، فأمر المقداد وعمارا فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك8. وعن ابن شهاب، قال: “إن هذا العلم خزائن تفتحها المسألة”، وكان الخليل يقول: “العلوم أقفال والسؤالات مفاتيحها”9.
2 ـ أن نُجلهم ونحترمهم ونتأدب معهم:
فرض الله تعالى للعلماء حقوقا كثيرة ألزمنا بها، حفظا لمكانتهم وتقديرا لشأنهم وصيانة للعلم الذي شرفهم وكلفهم به. ومن تلكم الحقوق، أن نُجلهم ونحترمهم ونتأدب معهم ونتواضع لهم. يُروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: “من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تُشيرن عنده بيدك، ولا تعمد بعينيك غيره… وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تشبع من طول صحبته…”10.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: “لا يُدرك العلم إلا بالتواضع. فعلى طالب العلم أن يكون متواضعا، ولا سيما مع شيخه وأستاذه فيكون مؤدبا وقورا معه لا يتعدى حُرمة مجلسه. وينظر إليه نظرة احترام وإجلال، وأن يلقي إليه زمام أمر التعليم كله ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. ويقوم بخدمته بقدر ما يستطيع، فقد قال الشعبي: صلى زيدٌ بن ثابت على جنازة فقُربت إليه بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال زيد: خلَ عنه يا ابن عباس عم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا نفعل بالعلماء والكبراء. فقبَّل زيد بن ثابت يده وقال:هكذا نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم”11.

3 ـ ألا نخوض في أعراضهم وألا نضرب بعضهم ببعض:
ابتُلي أهل العلم في كل زمان ـوفي زماننا هذا خاصةـ بأقوام يؤذونهم بألسنتهم أشد الإيذاء فيستبيحون أعراضهم ويرمونهم بالباطل ويسبونهم بأقذع السباب ويسلقونهم بألسنة حداد تشي عن قلوب ملئت عداوة وبغضا وحسدا وحقدا، ويتتبعون أخطاءهم ويتصيدون زلاتهم فإن ظفروا بشيء منها طاروا بها
فرحا فأشاعوها في الآفاق ليُنفروا الناس عنهم…
وقد أحدث هؤلاء بصنيعهم هذا فتنة في الأمة وعمقوا الخلاف وأوغروا الصدور وحاصروا الدعوة وأشغلوا العلماء والدعاة بخلافاتهم عن صد موجات الإلحاد والتنصير والعلمنة والإباحية والتشيع والقبورية.. ونحوها، وهي كلها أمواج عاتية تجرف تربة الدين وتُغرق كثيرا من شباب الإسلام في بحار الشبهات والشهوات.
لذا فمن شكرنا لله على نعمة العلماء، أن نعترف بفضلهم، ونتفهم اختلافهم في قضايا الاجتهاد، وهم ليسوا بدعا في ذلك فقد اختلف قبلهم فقهاء وعلماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أصحاب المذاهب الفقهية المعتبرة، بل واختلف أصحاب المذهب الواحد ونُقلت عنهم آراء واجتهادات. واختلاف العلماء في الفقه وفي أحكام النوازل المستجدة، اختلاف سائغ ومشروع لأنه مترتب عن أسباب مشروعة ومعقولة.
ومن حسن تعاملنا مع العلماء أيضا ألا نتعصب لبعضهم ضد بعض، ولا نضلَل ولا نُفسَق بعضهم مقابل تقديس بعض ورفعهم إلى مقام العصمة التي لا تثبت إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:” وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي وعادي عليها، غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة ، ويوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون”12 .
وإن العلماء يُخطئون ويصيبون، بل قد يزلون، فإن وقعت من بعضهم زلة اتقيناها من غير أن نتهم نواياهم ولا أن نتطاول عليهم ولا أن ننتقص من أقدارهم ولا أن نهتك أعراضهم بالغيبة والسب والقذف…
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: “واعلم يا أخي وفقنا اللهُ وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء ـرحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتعٌ وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خُلُقٌ ذميم”13.
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: وما زالت ثائرة أهل الأهواء، توظف هذه المكيدة في ثلب علماء الأمة. فقد لجوا في الحط على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لأنه عمدة في القرون المتأخرة لإحياء منهج السلف.
ونشروا في العالم التشنيع على دعوة علماء السلف في قلب الجزيرة العربية بالرجوع إلى الوحيين الشريفين، ونبزهم بشتى الألقاب للتنفير.
وفي عصرنا الحاضر يأخذ الدور في هذه الفتنة دورته في مسلاخ المنتسبين إلى السنة متلفعين بمرط ينسُبُونه إلى السلفية -ظلما لها- فنصبوا أنفسهم لرمي الدعاة بالتهم الفاجرة، المبنية على الحجج الواهية، واشتغلوا بضلالة التصنيف.
وهذا بلاء عريض وفتنة مُضلة في تقليص ظل الدين، وتشتيت جماعته، وزرع البغضاء بينهم وإسقاط حملته من أعين الرعية، وما هنالك من العناد وجحد الحق تارة ورده أخرى(…).
ويا لله كم صدت هذه الفتنة العمياء عن الوقوف في وجه المد الإلحادي والمدَ الطرقي، والعبث الأخلاقي، وإعطاء الفرصة لهم في استباحة أخلاقيات العباد، وتأجيج سبل الفساد والإفساد”.14
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان، ج2 ـ ص213 ـ 214، بتصرف يسير.
2 ـ جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ص11 دار ابن حزم، ط1:1427هـ ـ2006م.
3 ـ سنن الترمذي2647
4 ـ سنن أبي داود 3641، وسنن الترمذي2682.
5 ـ تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان، ج2 ـ ص277.
6 ـ جامع بيان العلم وفضله ص100
7 ـ صحيح البخاري314 و315، صحيح مسلم332.
8 ـ صحيح البخاري132 ـ 178 ـ 269، وصحيح مسلم303.
9 ـ جامع بيان العلم وفضله، ص102.
10 ـ عن:كتاب: أيها الولد، لأبي حامد الغزالي، ص51 ـ 52
11 ـ الحديث رواه الطبراني والحاكم ، وقال الحاكم:صحيح الإسناد على شرط مسلم، أنظر تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي بهامش لإحياء ـ الباب الخامس: في آداب المتعلم والعالم.أما كلام الغزالي فهو مأخوذ من كتابه: أيها الولد، ص50، دار البشائر الإسلامية، ط3:1425هـ ـ2005م.
12 ــ الفتاوى الكبرى، ج20 ، ص164 .
13 ـ تبيين كذب المفتري ص29، نقلا عن العلامة بكر أبي زيد:تصنيف الناس بين الظن واليقين، ص18، دار ابن الجوزي، ط1/1427هـ ـ2006م.
14 ـ تصنيف الناس بين الظن واليقين، ص 17ـ 18، دار ابن الجوزي، ط1/1427هـ ـ2006م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *