مباحثُ فقهِ اللغة عند ابنِ قَيِّمِ الجَوزِية عبد المجيد بن محمد أيت عبو

لقد كان العلامة شمسُ الدين أبو عبد الله محمدُ بنُ أبي بكرٍ الزَّرعيُّ الدمشقيُّ المشهورُ بابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ من العلماء المحققين الأفذاذ، الذين فتح الله تعالى عليهم في علوم مختلفة، وَحَبَاهم النبوغَ في فنون شتَّى. وقد كان له إِلْمَامٌ واسع بالثقافات المتعددة في مختلف الميادين؛ فنبغ في علوم الحديث، والفقه، والأصول، والتفسير، والمنطق، وعلوم العربية وغيرها. كما أن له معرفة بالتوراة والإنجيل، وبالعبرانية والسريانية والفارسية والتواريخ القديمة. قال عنه السيوطي: “قد صنف وناظر واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير، والحديث، والفروع، والعربية”( 1). وله رحمه الله مؤلفات كثيرة نافعة في مجالات عدة، استفاد منها الموافق والمخالف، قد استقى مادتها العلمية الغزيرة من مكتبته العامرة، إذ كان مغرما بجمع الكتب، وقد: “اقْتَنَى من الكتب ما لا يَتَهَيَّأ لغيره تَحْصِيلُ عُشُرِهِ من كتُبِ السَّلَفِ والْخَلَف” البداية والنهاية (14/235).

وإنَّ مِمَّا تحفل به كتبُ ابنِ القيم رحمه الله تناولَها مَجموعةً من قضايا ومباحثِ فقه اللغة العربية؛ فهو يذكر في ثنايا كتبه كثيرا من المباحث والمسائل التي تناولها سابقوه في هذا الباب؛ كالثعالبي في فقه اللغة، وابن فارس في كتابه الصاحبي، وابن جني في الخصائص. وسنشير في هذه المقالة إلى بعض النماذج الدالة على غزارة علم ابن القيم، وعمق فهمه في فقه العربية وأسرارها، مقتصرين على أمثلة ثلاثة:
المثال الأول: الألفاظ التي تختلف أسماؤُها باختلاف ما يعتريها من الأحوال والهيئات
ذكر فيه ابن القيم مجموعة من الألفاظ التي تختلف أسماؤُها باختلاف ما يعتريها من الأحوال والهيئات؛ قال في بدائع الفوائد: “الحذْفُ بالعَصَا والخذْف بالحصَا. حَسَرَ عن رأسه، وسَفَرَ عن وجهه. وافْتَرَّ عن نَابِه، وكَشَّرَ عن أسنانه. وأَبْدى عن ذراعيه وكَشَفَ عن سَاقيه. مَائِدَةٌ لِمَا عَلَيْهَا الطَّعَامُ، وخِوَانٌ لِمَا لاَ طَعَامَ عَلَيه.. كَأسٌ لِمَا فِيه شَرَابٌ، وبِدُونِه زجَاجَةٌ وَإِنَاءٌ وقَدَحٌ. كُوزٌ لِذِي العُرْوَةِ، وبِدونِهَا كُوبٌ. رُضَابٌ للرِّيقِ في الفم، فإذا انْفَصَل فبُصَاقٌ. أَرِيكَةٌ للسَّرِيرِ عَلَيْهِ قُبَّةٌ، وبِدُونِهَا سريرٌ..
وهذا باب واسع، اعتنى به الثعالبي كثيرا، وأطال في التمثيل له في باب أسماه: “باب في الأشياء تختلفُ أسماؤُها وأوصافُها باختلاف أحْوالِها”.
المثال الثاني: الاشتقاق
وسنعطي في هذا المثال لَمْحَةً عن ضرب من الاشتقاق سماه ابنُ جني الاشتقاقَ الأكبر، وذلك أن الاشتقاقَ عنده على ضربين: كبير وصغير؛ فالصغير هو المتداول والمعروف في كتب اللغة، كلفظ: (سلم) الذي يؤخذ منه معنى السلامة في تصرفه، نحو: سَلِم ويَسْلَم وسَالِم وسَلْمَان وسَلْمى والسَّلِيم. أما الكبير أو الأكبر فهو أن تأخذ أصلاً ثلاثيًّا، وتربطَ تَقَلُّباتِهِ الستَّةَ بمعنى واحد، فتقاليبُ فِعلِ (ملك) مثلا، وهي: (ملك)، (مكل)، (كمل)، (كلم)، (لكم)، (لَمك) ترجع إلى معنى واحدٍ وهو القوة والشدَّة. وهذا القسم قال عنه ابن جني: “هَذَا أَعْوَصُ مذهباً وأحزَنُ مُضطرَبا”(2). وابن القيم رحمه الله عدل عن تسمية هذا النوع بالاشتقاق الأكبر، وسماه: الاشتقاق الأوسط؛ يقول في مدارج السالكين: “وَأمّا الرَّهْبةُ فهي الإمْعَانُ في الْهَرَبِ منَ المكروهِ، وَهِي ضِدُّ الرَّغْبةِ التي هي سَفَرُ القلبِ في طَلَبِ المرْغُوب فِيه، وَبَين الرَّهَبِ وَالْهَرَبِ تناسُبٌ فِي اللَّفظِ والمعنى يجمعهما الاِشتقاقُ الأوسَطُ الذي هو عَقْدُ تَقَالِيبِ الكلمةِ عَلَى مَعنى جَامعٍ”( 3).
المثال الثالث: المناسبة بين اللفظ ومعناه
وهو حديث ابن القيم رحمه الله عن المناسبة بين اللفظ ومعناه، وهو موضع شريف لطيف، لا يقوى عليه إلا من رَقَّ طبعُه، ودَقَّ فهمُه، وكُشِف له مِنْ أسرار هذه اللغة الباهرة. “والله سبحانه بحكمته في قَضَائه وَقَدَرِه يُلْهِم النفوسَ أن تضع الأسماء على حَسَبِ مُسَمَّياتِها لِتَتَنَاسَب حكمتُه تعالى بين اللفظ ومعناه، كما تَنَاسبت بين الأسباب ومسَبِّبَاتِهَا”( 4). وإِنَّ “الألفاظَ مُشَاكِلَةٌ للمعاني التي أَرْوَاحُها يَتَفَرَّسُ الفَطِنُ فيها حقيقةَ المعنى بطبعِهِ وحِسِّهِ، كَمَا يَتَعَرَّفُ صّادِقُ الفِراسَةِ صفاتِ الأرواحِ في الأجسادِ من قَوَالِبِها بِفِطْنَتِه”( 5).
قال رحمه الله في جلاء الأفهام في مَعرض كلامِه عن الميم المشددة في قول المصلي على النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ»:
“وقيل: زِيدت الميمُ للتعظيم والتفخيم، كزيادتها في زُرْقُمٍ لِشدِيد الزُّرقَة، وابْنُمٍ في الابن. وهذا القولُ صحيحٌ، ولكنْ يحتاج إلى تَتِمَّة، وقائلُهُ لَحَظَ معنًى صحيحاً لا بد من بيانِه؛ وهو أن الميم تدل على الجَمْعِ وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مُطَّرِد على أصل من أَثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أَسَاطين العربية(6)، وعقد له أبو الفتح ابْنُ جِنِّي بابا في الخصائص( 7)، وذكره عن سيبويه( 8)، واستدل عليه بأنواعٍ من تناسب اللفظ والمعنى، ثم قال: “ولقد كنت بُرْهَةً يَرِدُ عليَّ اللَّفظُ لا أعلمُ موضوعَه، وآخُذُ معناه من قُوَّةِ لفظهِ ومناسبةِ تلك الحروفِ لذلك المعنى، ثم أَكْشِفُهُ فأجِدُه كما فَهِمْتُه، أو قريباً منه. فَحَكَيتُ لشيخ الإسلام هذا عن ابن جِنِّي فقال: وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك، ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى، ومناسبة الحركات لِمَعنى اللفظ، وأنَّهم في الغالب يجعلون الضمَّةَ التي هي أقوى الحركاتِ للمعنى الأقوى، والفتحةَ الخفيفةَ للمعنى الخفيف، والمتوسِّطَةَ للمتوسط؛ فيقولون: عَزَّ يَعَزُّ بفتح العين، إذا صَلُبَ، وَأَرْضٌ عَزَازٌ: صَلبَةٌ، ويقولون: عَزَّ يَعِزُّ بكسرها إذا امتنع، والممتَنِعُ فوقَ الصَّلْبِ، فقد يكون الشيءُ صلباً ولا يَمْتَنِعُ على كاسرِهِ، ثم يقولون: عَزَّهُ يَعُزُّهُ إذا غَلَبَه؛ قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام: “وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ” والغَلَبَةُ أقوى من الاِمتِنَاع، إذ قد يكون الشيءُ مُمْتَنِعاً في نفسِهِ، متَحَصِّناً من عَدُوِّه، وَلاَ يَغلِبُ غيرَهُ، فالغالبُ أقوى من الممتَنِعِ، فأعْطَوْهُ أقوى الحركاتِ، والصَّلْبُ أَضعفُ من الممتَنِعِ فأعطَوْهُ أضعفَ الحركاتِ، والممتنعُ المتَوَسِّطُ بين المرتبتين، فأعطَوْهُ حَرَكَةَ الوَسَط.
ونظيرُ هذا قولهُم: ذِبْح بكسر أوَّله للمَحَلّ الْمَذبُوح، وذَبْح بفتح أوَّله لنَفْسِ الفعل، ولا ريبَ أن الجسمَ أقوى من العَرض، فأعطوا الحركةَ القويةَ للقويِّ، والضعيفةَ للضعيفِ.. وكقولهم: حِمْلٌ بِالكسر لما كان قوِيًّا مُثَقِّلاً لحامِلِه على ظَهرِه، أو رأسه، أو غيرهما من أعضائه. والْحَمْلُ بالفتح لما كان خَفِيفَهُ غيرَ مُثَقِّلٍ لحَامِلِه. وَتَأَمل كونَهُم عكسوا هذا في الْحِبِّ والْحُبِّ، فجعلوا المكسورَ الأوَّلَ لنَفْسِ المحبوب، ومَضْمُومَهُ للمصدر، إيذاناً بِخِفَّةِ المحبوب على قلوبِهِم، ولُطْف موقِعِه في أنفسهم، وحلاوتِهِ عندهم، وثِقْلِ حِمْلِ الْحُبِّ وَلُزُومِهِ للمُحِبِّ كما يلزم الغريم غَريمَه.. وَلِهَذَا كَثُر وصفُهُم لتحمُّلِه بالشدةِ والصعوبةِ.
وهذا أكثرُ من أن يحاط به، وإن مَدَّ الله في العُمُر وضعت فيه كتابا مستقِلاًّ إن شاء الله تعالى.
ومِثلُ هذه المعَانِي يستدعي لطَافَةَ ذِهْنٍ وَرِقَّةَ طَبع، ولا تَتَأَتَّى مع غِلَظِ القلوب، والرضى بأوائل مسائلِ النحو والتصريف دون تأمُّلِهَا وتدبُّرِها، والنظرُ إلى حكمةِ الواضعِ، ومطالعةِ ما في هذه اللغة الباهِرَةِ من الأسرار التي تَدِقُّ على أكثر العُقُول..
وانظر إلى تسميتهم الغليظَ الجافي بالعُتُلِّ، والجَعْظَرِيّ، والْجَوَّاظِ، كيف تجد هذه الألفاظَ تنادي على ما تَحتَها من المعاني، وانظر إلى تسميتِهِم الطويلَ بالعَشَنَّقِ، وتأملِ اقتضاءَ هذه الحروفِ ومناسبَتِهَا لِمَعنى الطويل. وتسميتِهِم القصيرَ بالبُحْتُرِ، وموالاَتِهِم بين ثلاثِ فَتحَاتٍ في اسم الطويل وهو العَشَنَّقُ، وإتيانِهِم بضمتين بينهما سُكُون في البُحْتُرِ كيف يقتضي اللفظُ الأَوَّلُ انفتاحَ الفمِ، وانفراجَ آلاتِ النُّطقِ وامتدادَهَا، وعدَمَ ركوبِ بعضِهَا بعضاً. وفي اسمِ البُحْتُرِ الأَمْر بالضِّدِّ..”.
وقال رحمه الله مُبِيِّناً دَِلاَلَةَ حَرْفِ الميمِ على معنى الجمعِ والضَّم: “الميمُ حرفٌ شَفَهِي يجمَعُ الناطِقُ به شفَتَيْهِ، فوضعته العرب عَلَماً على الْجَمْعِ؛ فَقالوا للواحد أنْتَ، فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا: أنتم. وقالوا للواحد الغائب: هُوَ، فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا: هُمْ، وكذلك في المتصل يقولون: ضربْتَ وضربتُم، وإياك وإياكُمْ، وإياهُ وإياهُمْ ونظائره..
وتأمَّلِ الألفَاظَ التي فيها الميمُ كيف تجد الْجَمْعَ معقودا بِها؛ مثل لَمَّ الشيءَ يَلُمُّه إذا جَمَعَه.. ومنه قولهم: دارٌ لَمُومَةٌ أي تَلُمُّ الناس وتجمعهم، ومنه: “أَكْلاً لَمّاً” جاء في تفسيرها: يأكلُ نصيبَهُ ونصيبَ صاحِبِه، وأصله من اللَّمِّ وهو الجمع.. ومنه: أَلَمَّ بالشيء إذا قارب الاجتماعَ به والوصولَ إليه. ومنه: اللَّمَمُ وهو مقاربةُ الاجتماع بالكبائر.. ومنه اللِّمَّةُ وهي الشَّعر الذي قد اجتمع وتَقَلَّصَ حتى جاوزَ شحْمَة الأُذن. ومنه: تَمَّ الشيءُ، وما تصرف منها..(9)
وحسبي في هذا المقال أن أُدنِيَ للقارئ ملامِحاً عن جانبٍ من ثقافةِ ابنِ القيم الواسعة، وأمنحَ الباحثَ إشاراتٍ من عنايتِهِ بدقائقِ اللغةِ وأسرارِهَا، وإلا فالموضوع بحاجة إلى مزيد من البحث والتنقيب والتَّقَصِّي، فما أكثر المباحث التي عالجها ابن القيم في هذا الباب، لكنها مبثوثة في كتبه، تحتاج إلى جمع وترتيب.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) بغية الوعاة (1/63).

([2]) الخصائص (2/134).

([3]) مدارج السالكين (1/512-513).

([4]) تحفة المودود بأحكام المولود، الفصل التاسع: بَيَانُ ارتباطِ معنَى الاسم بالْمُسَمَّى (ص: 296).

([5]) بدائع الفوائد (1/95).

([6]) كالخليل بن أحمد، وسيبويه. انظر الخصائص (2/152).

([7]) سمى هذا الباب: “باب في إِمساس الألفاظ أشبَاَهَ المعاني”.

([8]) انظر: الكتاب (2/218).

([9]) جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام (ص: 242-248). وانظر كلامه أيضا في هذا المعنى في كتابه: مفتاح دار السعادة (3/349-351). وكتابه: بدائع الفوائد (1/95-97).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *