الاستغراب في فكر الدكتور عابد الجابري -6- (الانتصار للعقلانية الغربية) تتمة د.عبد الله الشارف كلية أصول الدين/كلية الآداب تطوان

يقول الأستاذ الجابري: «”العقل السلفي” إذن، مكبوح الجماح مردود “الشطط”، لا ينتج العلم، بل هو “صديق” له فقط، يبحث في “أسرار الكون” ولكن مع “احترام الحقائق الثابثتة..”.
إنه “عقـل الماضي”. لا بل “العقل السني” الذي “ردع” و “كبح” مسيرة “نهضة” الماضي التي شيدها عقل المعتزلة والفلاسفة والعلماء.
وهكذا فـ”تحرير الفكر” في المنظور السلفي عموما، لا يعني الخروج به من الدائرة التي كان يتحرك داخلها أثناء عصر “الانحطاط”، عصر ما قبل النهضة، بل يعني فقط إعادة موضعته داخل هذه الدائرة نفسها. وبعبارة أخرى: لقد فكر الشيخ في “تحرير الفكر” داخل الحقل المعرفي/الإيديولوجي القديم وضمن إشكاليته.
إن مفاهيم: “التقليد” و”طريقة سلف الأمة”، و”ظهور الخلاف” و”الينابيع الأولى” و”موازين العقل البشري” و”شطط العقل..” كل هذه المفاهيم كانت ولا تزال عناصر أساسية في بنية فكرية ثقافية هي ذاتها تلك التي كانت سائدة من قبل، والتي كان من المفروض أن تنطلق النهضة من كسرها وتشيد أخرى مكانها.
هنا أيضا، وفي مجال “الفكر” كذلك تصبح النهضة هي “بعث ما مضى، لا خلق شيء جديد”. ليس هذا وحسب، بل إن عبارة “قبل ظهور الخلاف”، ذات دلالة في هذا الصدد. ذلك لأن “تحرير الفكر” بالرجوع به مرحلة ما قبل “ظهور الخلاف” -في التاريخ العربي الإسلامي- معناه الرجوع به إلى مرحلة ما قبل “ظهور العقل” في الحياة الفكرية العربية الإسلامية. وتلك هي الدلالة العميقة لما ترمز إليه -على الصعيد الابستمولوجي- العبارة المتوارثة منذ الإمام مالك :”لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، والتي كانت ولازالت شعار لكل رؤية إصلاحية سلفية»1.
ومما يستنتج أيضا من مضمون النصوص الثلاثة، أن الدكتورالجابري يعاني فكريا وطأة قوة القداسة التي يتميز بها تراثنا العربي الإسلامي بالرغم من الوضع المتردي للثقافة العربية الإسلامية. وسبب هذه المعاناة والمكابدة يكمن في كونه يعي كل الوعـــي أن ثبات روح التراث ومبادئه في ذاكرة المسلمين يشكل العقبة الكؤود في وجه مشروع العقلانية كما يتصورها.
وفي هذا الصدد نستمع إلى كلام محمد جسوس في “ثورة العقلانية العربية واقع وآفاق”: إن الحركة العقلانية الأوربية كانت تعتمد على شروط. هذه الشروط كانت في انهيار مجالات المقدس، أو انهيار التجليات التاريخية والمجتمعية للمقدس.. فالحركة العقلانية في أوربا برزت في ظروف أصبحت فيها الكنيسة عاجزة عن تسيير المجتمع وعن تأطير كل الديناميات وكل الفعاليات الجديدة التي أبرزها المجتمع..
إن من أهم أسباب بروز العقلانية تضاؤل المقدس داخل المجتمع، هذا هو الشرط الأول. والشرط الثاني هو بروز قوى جديدة لها قدرة على الاكتساح، لها مشروع طبقي أو مشروع حضاري بعيد المدى، تستعمل العقلانية كأداة للمزيد من تحطيم ما تبقى من النظم السابقة، ومن رواسب المقدس.. كي تبني التاريخ كما تريده هي، لا التاريخ كما كان يؤدى إليه نوع من الطروحات التقليدية أو نوع من الطروحات التراثية.
أود أن أشير إلى أنه لا العنصر الأول ولا العنصر الثاني لم يتجليا بعد، أو لم يتجسدا بعد مما يكفي من الوضوح في الوطن العربي.. وفي رأيي أن المد التراثي الطاغي المسيطر على مختلف مجالات الفكر والسلوك، أصبح يفرض نوعا من الأسبقية على كل محاولات الاجتهاد الأخرى.. فكما أشار الأستاذ الجابري في بعض طروحاته.
يقول إن المسلم المعاصر أو العربي المعاصر لا يشعر بأي نوع من أنواع الغربة ولا بأي نوع من أنواع الاغتراب عندما يتعامل مع العديد من الإنتاجات التراثية … هذه الاستمرارية للماضي ولرموز الماضي معناه أن المقدس كأرضية عليا، كمنطلق لازال له تواجد في العالم العربي يفوق بكثير ما حدث في المجتمعات الأوربية الغربية عامة، وهذا بالفعل، ما دام الأمر كذلك يشكل إحدى أهم العوائق البنيوية نحو تحول العقلانية من مجرد فكرة إلى حركة اجتماعية وإلى صيرورة تاريخية فعلية»2.
هكذا تشكل عملية “استمرارية الماضي” في واقع الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الإسلامية العامل الرئيسي الذي يشد عربة التاريخ إلى الوراء في رأي العقلانيين المستغربين، مما يجعلهم يستبعدون -رغم ما يبدونه من ترقب وانتظار تعلوه سمة من التفاؤل- “تضاؤل المقدس” وتراجعه داخل المجتمعات المعنية.
وفي هذا الإطار يرى الدكتور الجابري: «إننا نفقد الحس التاريخي عندما نترك الأزمنة الثقافية المتنوعة تعيش في داخلنا وعندما نجعل الماضي يزاحم الحاضر في نفوسنا»3.
ومن شدة استغراب الجابري وذوبانه في العقلانية الغربية، أنه انتقد حتى العلماء والمفكرين المسلمين الذين وقفوا من الثقافة اليونانية موقفا عقليا ومنطقيا وأبوا أن يجعلوا من المنطق اليوناني حكما فيما يعرض لهم من القضايا والمسائل الفكرية، فلقد رماهم بالجمود العقلي وعدم الانفتاح. وكان أبو سعيد السيرافي النحوي المنطقي من زمرة الذين استهدفهم الجابري بذلك النقد. ويذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه “الإمتاع والمؤانسة” أن أبا سعيد السيرافي ناظر أبا بشر متى المنطقي في مجلس علمي؛ عقده الوزير ابن الفرات وذلك في بغداد سنة 326 هـ وانتصر عليه.4
وقد تصدى أبو سعيد السيرافي وكان أحد الأعضاء البارزين في مدرسة بغداد النحوية التي كان على رأسها يوم ذاك ابن السراج أستاذ الفارابي في العربية وتلميذه في المنطق.
تصدى السيرافي للمناظرة يعارض دعوى متى بن يونس القنائي مؤكدا استغناء اللغة العربية عن المنطق اليوناني، لأن لها منطقها الخاص هو نحوها، تماما مثلما أن منطق اليونان هو نحو لغتهم. وكما أن “لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها..”، فإن الميزان الذي يوزن به الكلام لا بد أن يختلف من لغة إلى أخرى وإذن : “فإذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتـها، فأين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضيا وحكما لهم وعليهم” 5.
إن السيرافي عندما قال :”إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية” فهو يشير إلى أن منطق أرسطو هو نحو اللغة اليونانية، مثلما أن النحو العربي هو منطق اللغة العربية. ومن هنا كان تطبيق المنطق الأرسطي على اللغة العربية بمثابة “إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها” وهذا كلام عميق وبديهي، إذ لكل لغة منطقها ولكل منطق لغته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ـ الخطاب العربي المعاصر ، ص:35-36.
2-ـ محمد جسوس :ثورة العقلانية العربية واقع وآفاق، مجلة الوحدة ع51، ص3637 .
3-ـ د.محمد عابد الجابري؛ تكوين العقل العربي، ص:47.
4-انظر أبو حيان التوحيدي: الامتاع والمؤانسة، ص:108-124.
5- الدكتور محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي؛ ص:257.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *