مقارنة في سطور بين تشكيلة المشاركة في مشروع تجديد المدونة ومشروع النموذج التنموي محمد بوقنطار

من قال رحمه الله وأخبر أن من حسن السياسة ترك السياسة، لم يكن لِيُؤبد مشروع هذه القطيعة وإنما قيّد البينونة بزمانها قائلا “ترك السياسة الآن”.

ولذلك فإن كنت لا أحب السياسة الآن وأكره الخوض في مهاترات أصحابها، أو التماهي في استقبال أو صناعة زيف وعودهم ووعودها، فليس مرجع الكره والتبرم راجع إلى أن ليس في الإسلام سياسة وأنه محض شعائر تؤدى في زمانها وأمكنتها، ثم ينصرف ويأوي العابد إلى ركن سحيق حاكيا قصص تُروى ثم تُطوى، ممارسا حياته في انفكاك كلي عن أي تكليف شرعي أو ضابط أخلاقي، بل لأنني ذوقا بِتُّ وصرت وأصبحت أعرف أن خَبَث السياسة ورجس السياسيين اليوم فاق في القدر والجِرم حجم القلتين من الماء ففقد سائل السياسة هذا صفة الطُهر ولازم الطهورية، وما يُفعل بماء هذه صفته وهذه حاله، بله ما يفعل المرء وسط قوم صارت الطهارة فيهم تهمة وجريمة…

لمّا تداعت الأفمام والأقلام على قصعة مدونة “الأحوال الشخصية” تحت طائلة السوط الحقوقي والنوط المدني في لحنه المتباكي المنغوم، الذي حكى صُراخه يومها أن ثمة ظلم وظلمات في تلك المدونة، وأنها لم تعد مسايرة لما وصلته منظومة النواميس الكونية من مراتب متقدمة في مقام الاعتناء بالحالة الإنسانية خاصة في شقها الأنوثي.

لمّا تداعت هذه الأفمام والأقلام على تلك القصعة جمعت مائدة المفاوضات والمواجهة في خضم هذه المساعي غير الحميدة، وضمت أطراف التقابل في الذوات والمقاصد والنيات بشكل ندّي علماء دين ورجال سياسة وحقوق من ذوي الأنفاس المعلمنة، ثم وضع النص الشرعي بمعية فهمه المقاصدي ليُشَرّحَ بمقص مدني ثم يخاط الرتق وفجوة الإقصاء، وموضع الاجتزاء واللي والطي منه بخيط نصي ديني وجارحة خيّاط شرعي، ولتخرج لنا المدونة في ثوبها الحضاري القشيب، الذي يرد البصر الحقوقي غير خاسئ ولا حسير في خضم قعقعته المدنية المنيبة المُخبتة النواصي للمحراب المادي الغربي في شقّه غير الأخلاقي…

إننا لن نخوض مع الخائضين في تقييم الحياة الأسرية وخصائصها في ما بعد تنزيل المشروع الجديد لمدونة الأحوال الأسرية، خصوصا وقد استطاعت الهيئات الحقوقية المدنية التي تأبطت مشروع التجديد والمواءمة أن تحجب عن المهتمين والمختصين ناهيك عن أيّها الناس ممن اصطلوا بالمكواة الحداثية، وأن تخفي عن الجميع الأرقام المهولة والنسب المرتفعة للطلاق وما ترتب عليه من رُهاب وعزوف هالك عن اقتحام مؤسسة الزواج من طرف الشاب بل الكهل المغربي صاحب الباءة وزيادة، في مقابل إيثار راجح لحياة العزوبية، حتى قال أحدهم في برنامج ولقاء حواري على “اليوتوب” مستفهما في خسة ونذالة “لماذا أحوز بقرة أتجشم عناء وكلفة علفها والحليب في السوق على قفا من يشيل؟؟؟” يعني بهذا أن السفاح يغني عن كلفة والتزامات النكاح، ناهيك عن الأرقام المهولة لحالات الطلاق وانفكاك أسري حائف، كما استطاعت فصائلها الحقوقية النسائية المبثوثة في كل مدينة وقرية تغطية مصائب وموبقات تدخل في جملة ما ترتب عن العلاقات غير الشرعية، التي تحوّلت ملفوفة في بريق خادع إلى مسمى العلاقات الحميمية أو رضائية، التي راكمت في سوق المجتمع أرقاما متغوّلة من الأمهات العوازب وأبناء السفاح، قُلت استطاعت تغطيتها عبر تمريرها في قالب اجتماعي حقوقي، يستدر عطف المواطن، ويجعله تحت السكرة الحقوقية والسطوة العاطفية غير الرشيدة يكرس مهادنة مع المنكر، بل يزكي القبول به والانخراط في إيجاد حلول له، كما المساهمة في بناء مأوى مدني يستر المعدود الموجود ويُشجع العدد المستشرف المفقود، بل يعطيه الضمانات الحقوقية التي تنأى به عن المؤاخذة الشرعية أو القانونية أو الأسرية، كما يضمن لهذا العدد حقه في العيش الكريم والرأس المرفوع وسط مجتمع مغربي مسلم استمرأ أهله عدم مهادنة الباطل وعدم مساكنة المنكر وملاطفة مستقبح الأخلاق، إنها مآسي تحوّلت إلى مكاسب، واختلالات تغيّرت لكي تصير توازنات في ظل المفاهيم الجديدة والتحريفات المعنوية لمعاني العفة ومظاهر المشي على استحياء في مناكب الوطن وأركانه الجهوية، في ظل غلبة السياسي الحقوقي المدني، على الذات الشرعية في شقها البشري “العلماء ـ الخطباء ـ الدعاة ـ الوعاظ ـ”، كما شقها المعنوي الذي يمثله : “النص الشرعي من كتاب وسنة” كما تمثله المؤسسات الوصية والمشرفة ” وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المجالس العلمية المحلية ـ والمجلس الأعلى ـ والرابطة المحمدية للعلماء” وكل هذه طبعا تحت الرئاسة الفعلية والشرفية لإمارة المؤمنين ببلادنا ومملكتنا الآمنة”.

لسنا في حاجة إلى مثل هذا الخوض، ذلك أن الذوق يغني بأنينه عن ألمه، وبرائحته عن صورته الخادعة، كما لسنا تحت طائلة عدم الخبرة، وانعدام المعرفة النوعية التخصصية الشخصية في المجال الاقتصادي سواء في شقه الإسلامي أو المدني الغربي الوافد، في حاجة إلى اقتحام حرمة تفاصيل لا نُجيد العوم في لُجتها، وإنّما التكليف منوط بالوسع والقدرة كما القاعدة الشرعية والكونية تنص، وإنما يهمنا في مقام الإجمال طبعا التساؤل عن سبب غياب بل إقصاء العضو الإسلامي الرسمي الذي يمثل وجهة الشرع في طاولة الإنجاز، كما يُمثل إمارة المؤمنين، مستفهمين في براءة عن ما وراء أكمة حرمانه من حقه في التواجد ولو بمشاركة تضبط العقل الحداثي وتحول بينه وبين جموحه المادي الصِرف، كما تقوِّم إقعاده من الناحية الأخلاقية، سيما وأن المشروع جاء في مناخ يستشرف فيه الناس يوما يُغاثون فيه اقتصاديا ويعصرون اجتماعيا.

حقيقة كم هو مؤلم أن ترى العلماني اللاديني يناقش ويحشر يده في الثريد الشرعي، يجوب بين النصوص متصوِّلا مقعقعا مفرقعا، مقتحما حرمة النص مبطلا مفعوله تحت طائلة تأويله الحداثي، ثم تجده وهو الذي سمح لنفسه بأن يتخذ موقعا متقدما في المواجهة عددا وعُدّة عندما تعلّق الأمر بما له صلة بالشرع أصالة، بينما يتحوّل إلى عدواني إقصائي استئصالي متى ما سوّلت أنفاس القائمين في استحياء مخل على حدود الله لهم الإدلاء بدلو الشرع في قضايا حيوية لها ارتباط بدنيا الناس ومعاشهم، نعم كم هو مؤلم أن لا يكون بين الخمسة والثلاثين عضوا الذين شكلوا اللجنة المنوط بها إعداد مشروع النموذج التنموي واحد من علماء المجلس العلمي الأعلى أو من أعضاء الرابطة المحمدية للعلماء، وقد عُلم أن السيد بنموسى رئيس اللجنة بادر إلى عرض الحصيلة المرحلية لعمل اللجنة على أنظار سفيرة فرنسا، قبل تقديمها إلى العاهل المغربي، وهو ولا شك سلوك يمس مساسا صارخا بسيادة المغرب واستقلاليته في إدارة شأنه الداخلي كما الخارجي، بل في السياق نفسه ننقل ونشير بكل أمانة إلى ما أدلى به المفكر الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي  والذي يمشي في سياق الشجب واللوم والاستنكار من فعل سماح المغرب لصندوق النقد الدولي بالمساهمة في عملية صياغة مشروع النموذج التنموي الجديد واصفا تصريح السيدة كريستينا جورجيفا بصفتها المديرة العامة للصندوق بـِ “القبلة المُميتة” حسب الاستعارة الفرنسية المشهورة.

مؤلم بأنينه أن تُستشار تلك وأن يُساهم ذلك، بينما يتم تغييب طيف له مكانته وأصالته وثقله سواء تعلق الأمر بزخم المرجعية النصية، أو بالنظر إلى المكوِّن البشري للهيئات والمؤسسات الرسمية العاملة بالحقل الديني.

إن هذا الإقصاء له لازمته كما له معانيه، التي تحكي وتُحيل إجمالاتها وتفاصيلها على غلبة الجناح السياسي العلماني، على الجناح الدعوي، بل تذهب في صوب تكريس هيمنة مدنية لا تسمح ولن تسمح بأن يكون للإسلام دور خارج المسجد، وخارج وجدان الملتزمين بعراه من المسلمين، ويا ليت المسؤولية عند الفشل تعلق على ظهر أصحابها، ولكن وللأسف الشديد، قد يفشل هذا النموذج فترمى المسؤولية التقصيرية على الإسلام ونصوصه ورجاله، فلا يقال والحال حال فشل أن المشروع ذا الأنفاس العلمانية قد باء بالفشل، بل يقال أن المسلمين دولة وشعبا متخلفون فاشلون متشبعون بأسباب الفشل وعلل التخلف من أفيونية دينهم، وسطوته وتحكمه في الأعناق والأرزاق، وإنها والله وبالله وتالله لتهمة بعيدة التجلي، هو بريء منها اليوم براءة ذلك الذئب من دم ابن يعقوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *