لم أكن أود الكتابة في الموضوع، لأن الصمت غدا أبلغ من لَوْكِ الكلام في وقت تُهَشَّم فيه رؤوس أبنائنا في شوارع المغرب… لكن أثارني شريط يتداول على الفايس وباقي وسائل التواصل الاجتماعي لشخص يحرق فيه علم وطنه، والصفحة التي نشرته تَنْسُب السبب في مثل هذا العمل “الإجرامي” إلى من يطلق عليهم “العياشة” الذين كرَّهوا الناس في بلدهم وانتمائهم… لكن دعونا نتحدث بصراحة وحتى تتحدد الوجهة. ما الذي نريده الآن؟
تابعت كثيرا من المبادرات والدعوات المدنية والأهلية التي انطلقت من أجل الخروج من المأزق الحالي، كان آخرها مبادرة الدكتور عبد الصمد بلكبير، وقبلها المبادرة المدنية التي يقودها الدكتور النشناش، وهي محاولات نبيلة وينبغي مساندتها.
فالأكيد أن المغرب يعيش أزمة حقيقية، كان لأبناء الريف الفضل في الكشف عن حجمها وعمقها. أزمة ليست اجتماعية كما يراد لنا أن نتوهم، ولا هوياتية كما يرغب “تجار الهوية” في صالونات الغرب، ولا جغرافية مرتبطة بمنطقة دون غيرها، لكنها أزمة سياسية جوهرية في البناء المؤسساتي للمغرب.
وإذا لم يستوعب سادة الشأن العام في المغرب التغيرات السيوسيولوجية والبنيوية والسياسية التي عرفها المجتمع والتي أعطته القدرة على نقل احتجاجه على الوضع من المضمر إلى الفعل، فإننا سنجتر الأزمة ولن نحلها.
لذا فالمفروض في كل المبادرات ألا تتوقف عند الأعراض بل النفاذ إلى عمق الإشكال. والإشكال الحقيقي ليس في مستشفى ومدرسة وووو وإنما هو العودة إلى مسار التوافق الدستوري المجهض.
فإن كان دستور 2011 قد بني على توافق مجتمعي معين، وقبله ملف الإنصاف والمصالحة، وباقي مبادرات التوافق، فإن العودة إلى هذا الجو هو المدخل الحقيقي والأكيد الذي سيجنب المغاربة ويلات الفوضى. وهذا خطاب ينبغي توجيهه إلى السلطة وليس إلى الشباب الغاضب.
كما أن ربط المبادرة بجغرافية محدودة إخلال بمقاصد الحراك. فالقضية قضية وطن وليست قضية مدينة.
وإن كان لأبناء الحسيمة الآن القدرة والجرأة على الانتفاضة ضد “الحكرة” بأشكال احتجاجية إبداعية وراقية، فهم يعبرون في الحقيقة عما يعتمل في صدور المغاربة من كل الأطياف والمناطق. والذي يريد أن يعرف للحكرة معنى فعليه بجولة قصيرة في أعماق المغرب شرقا وغربا وجنوبا وشمالا ليصل فهمه بواقع بئيس تعيشه المناطق النائية.
لذا فأي مبادرة ينبغي أن تكون داخل إطار المصالحة مع الذات، مصالحة تستبعد منطق التخوين أو الاستغلال الفئوي لأحداث تعد نتاجا طبيعيا لإشكالات سياسية وطنية ومحلية.
فالأحداث ليست انقلابا ولا ثورة ولا رغبة في تغيير النظام، الحراك حركة احتجاجية ذات مطالب معينة، ونتيجة لمسار سياسي خاطئ في صناعة النخب جهويا وتدبير الشأن الديمقراطي وطنيا. وهذا يفترض إعادة النظر حتى في ملفات الإنصاف والمصالحة، التي اقتصرت على المدخل الحقوقي في حل الإشكالات العالقة، دون أثر حقيقي في المجتمع المغربي. فالمدخل الحقيقي للمصالحة ينبغي أن يكون سياسيا بين السلطة والمجتمع، وليس بين السلطة وفئات من المجتمع.
ثم ماذا بعد؟
دعوات التهدئة التي تنبعث هنا وهناك جديرة بأن يسمع لها وتستوعب، لأن المنطقة العربية الإسلامية تعيش حالة استثنائية، ولأن الهدوء هو الذي سيمكن الأطراف من إبداء حسن النية، ولأن الاحتجاج له سبل كثيرة وآليات يمكن الاشتغال في إطارها.
فدعونا ننظر هل فهمت السلطة الدرس أم مازالت لم تستوعبه؟