الإصلاح من الداخل.. المفهوم والمشروعية والإمكان د.رشيد بنكيران

 

المفهوم:

يراد بعبارة “الإصلاح من الداخل” ولوج مؤسسات الدولة المؤثرة في الواقع مثل مؤسسة الحكومة، ومؤسسة البرلمان، ومؤسسة القضاء، ومؤسسة التعليم، والمجالس العلمية، ومؤسسة الأمن ووزارة الداخلية، ومؤسسة الإعلام الرسمي، وغيرها من المؤسسات والمنابر التي من شأنها أن تحدث تغييرا في المجتمع.

فالإصلاح من الداخل هو مشاركة المسلم الرسالي؛ والذي يحمل مشروع رسالة الإسلام، في مؤسسات الدولة التي تصنع القرار، والانخراط فيها، قصد إصلاح المجتمع بمختلف مكوناته، فينصب عمل المسلم الرسالي -على وجه الإجمال- نحو جلب المصالح الشرعية أو التكثير منها أو دفع المفاسد الشرعية أو التقليل منها قدر المستطاع، فلا يترك المجال فارغا لأهل الفساد والانحراف في تلك المؤسسات دون مدافعة.

هذه العبارة “الإصلاح من الداخل” ترددت كثيرا لفظا أو مضمونا في أدبيات حركة الإصلاح والتوحيد في العقود الثلاثة الأخيرة ثم لدى حزبها السياسي، وسلكت طريق الإصلاح للمجتمع من خلالها، كما تبنتها شخصيات علمية وسياسة أخرى تنتمي عموما إلى مدرسة شباب الصحوة الإسلامية، وارتأت أن الإصلاح ينبغي أن يكون من داخل مؤسسات الدولة.

هذا، وقد اشتهرت مع هذه العبارة مقالة أخرى كالمتمة للأولى وتتنزل منزل القيد لها، وهي “الدخول بنية الخروج”، أي أن الإصلاح من داخل مؤسسات الدولة مشروط بعدم الانصهار في منظومة الفساد والانحراف، ورفض المساس بالثوابت المقررة في الدين، فإن خشي الداخل هدم تلك الثوابت المقررة وأصول الدين أو التي لا تقبل المزايدة حولها، أو خشي الانصهار في منظومة الفساد وجب عليه الخروج منها، وهي نية لديه مسبقة عقد عليها القلب حينما دخل إلى مؤسسات الدولة من أجل الإصلاح وعاهد الله عليها، فهو صاحب مشروع رسالي رباني وليس طالبا لمنصب دنيوي.

ولكن، بمعية هذا الموقف المبدئي، هناك مساحة كبيرة وممكنة شرعا تسمح للمسلم الداخل إلى مؤسسات الدولة، بالنية آنفة الذكر، أن يقوم بالإصلاح ومدافعة الباطل والفساد من خلال فقه الأولويات وفقه الموازنة اللذان يتطلبان نوعا من التدرج والمرونة أو التنازل عن بعض المسائل الجزئية في معالجة قضايا الإصلاح قصد تحقيق مسائل كلية.

المشروعية: هل هذا العمل له يجوز شرعا؟

بداية، نقصد بـ”الداخل” مؤسسات الدولة كيفما كانت هذه الدولة، سواء كانت دولة إسلامية أو غير إسلامية، سواء كانت مجتمعاتها ذات الأغلبية المسلمة أو ذات الأقلية المسلمة، كدخول المسلم الرسالي إلى مؤسسات الدول الكافرة والمشاركة فيها مثل الدول الأوربية، أو الدخول إلى مؤسسات الدول التي ينص دستورها صراحة على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، ورغم ذلك تجد مؤسساتها أو معظمها بعيدة عن نظام الإسلام. وسواء أكانت دول كافرة أو دول إسلامية ظالمة فلا يختلف حكم المشاركة في مؤسسات هذه الدول لدى فئة عظيمة من العلماء؛ إذ ذهبوا إلى مشروعية المشاركة مستدلين بقصة يوسف عليه السلام إذ كان يشغل -بلغة العصر- وزير الاقتصاد في دولة كافرة، وكذلك قصة النجاشي الذي كتم إسلامه حتى مات وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب في السنة التاسعة من الهجرة، وكان يشغل أعلا سلطة في دولة غير إسلامية، ومستدلين كذلك بالمعقول؛ فإن تفويت أعلا المفسدتين بارتكاب أدناهما وجلب أعلا المصلحتين بتفويت أدناهما مقرر في الفطر السليمة لا منازعة بين العقلاء في ذلك، كما دل على المشروعية استقراء جزئيات كثيرة في الشريعة ارتقت إلى أن تؤسس أصولا محكمة وقواعد قطعية يُحتكم إليها كما قرر أهل العلم، ومن بين هؤلاء العلماء نجد سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام الذي سطر في كتابه الفذ قواعد الأحكام في مصالح الأنام.

وليس الغرض من هذا المقال التفصيل في أدلة من قال بمشروعية المشاركة في مؤسسات الدولة الكافرة أو الظالمة بما فيها مؤسسة الحكومة ومؤسسة السلطة التشريعية أو البرلمان، فقد كُتب في ذلك كثيرا، ولكن غرضي أن أشير إلى مواقف العلماء والدعاة المعاصرين باختصار أمام هذه المشاركة بما فيها ولوج مؤسسة البرلمان والتي تتحاكم إلى نظام الأغلبية المخالف إلى مبدأ الحكم في الإسلام ، فإن تلك الإشارة تصب فيما أريد بيانه، ذلك؛ أن مواقف العلماء تنوعت إلى ثلاثة أقسام:

أ- قسم منهم من يقول بعدم المشاركة مطلقا باعتبار أن تلك المشاركة ركون إلى الكفر أو الظلم والفسق، ويستدلون بظواهر نصوص شرعية لا يحسنون فهمها وتنزيلها؛

ب- وقسم ثان من يقول بجواز المشاركة بشروط، وهم الأكثرون؛ ومن هؤلاء الشيخ ابن باز والشيخ ابن العثيمين والشيخ القرضاوي والشيخ الريسوني والشيخ ولد الددو، الشيخ عبد الله بن بيه والشيخ ابو أويس بوخبزة وغيرهم كثير. وهؤلاء العلماء ينتمون الى مدارس فقهية مختلفة والفتاوى التي صدرت منهم موجودة في مظانها، وأغلبها يتحدث عن حكم المشاركة السياسية والدخول إلى مؤسسة البرلمان والسلطة التشريعية في ظل الديموقراطية، فإذا قالوا بجواز المشاركة في هذه المؤسسة التشريعية، فجواز المشاركة في غيرها من مؤسسات الدولة من باب أولى.

ج- وقسم أخير من يعتقد مشروعية المشاركة من حيث الأصل، فهو يوافق القسم الثاني من حيث المبدأ إلا أنه يرى أن تلك المشاركة -وخصوصا المشاركة السياسية البرلمانية في ظل الديمقراطية- لا فائدة كبيرة مرجوة منها باعتبار الواقع الذي يحيط بالمشاركين، والذي سيدفعهم إلى التنازل على المبادئ والثوابت المقررة، وسيتم ابتلاعهم من طرف لوبي الفساد والمناوئين للمشروع الإسلامي، وسيؤول الأمر بمن دخل بينة الإصلاح إلى فشل ذريع وتشويه صورة الإسلاميين وتقويض المشروع الإسلامي من خلال مسرحية التحاكم إلى نظام الأغلبية، فنظرُ هذا القسم اتجه إلى مآل المشاركة وليس إلى أصلها، ولهذا قال بعدم الجواز.

وليس بين القسمين الثاني والثالث خلاف في حقيقة الأمر، فإن من قال بالجواز منهما، وهو القسم الثاني، قيّد القول بالجواز بتوفر الشروط وتفاءل خيرا، ومن قال بالمنع رأى أن تلك الشروط غير متوفرة في الظروف الحالية وتشاءم شرا.

الإمكان: شروط التنزيل لمشروع “الإصلاح من الداخل”

الإصلاح بمعناه الشرعي هو جوهر الشريعة الإسلامية وروحها التي جاء الإسلام يبشر به أتباع هذا الدين، فهو أتى بالصلاح ويدعو إلى الإصلاح. والإصلاح كسائر الواجبات الشرعية وفروضها مثل تغيير المنكر وسنة التدافع والجهاد يحتاج إلى أمور من أهمها الاستطاعة والقدرة على التنفيذ؛ لأنه فعل وحدث ينتظر توقيعه. ويعد أي انخراط في مشروع الإصلاح دون اعتبار شرط القدرة هو من قبيل الاشتغال بالعبث الذي تتنزه عنه الشريعة الإسلامية، بل قد يؤول القيام بالإصلاح في هذه الأحوال إلى جلب الفساد أو تكثيره الذي يرفضه الدين أو إضعاف المشروع الإسلامي.

و”الإصلاح من الداخل” هو من جملة صور الإصلاح الذي لابد أن يتم فيه مراعاة شرط الاستطاعة، ولهذا يجب المشتغل به أن يكون على وعي بمؤهلاته وقوته وحقيقة قوة خصمه المناوئ له . فهل حزب العدالة والتنمية؛ الشق السياسي لحركة التوحيد والإصلاح كان مؤهلا للقيام بذلك؟ وهل مقالة “الدخول بنية الخروج” لا تزال حاضرة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *