من أجمل مميزات «مدرسنا» أنه كان منضبطا بحضوره في الوقت المناسب، ولم يسبق لمدير المؤسسة، أن سجل عليه ملاحظات تتعلق بتغيبه أو تأخره، إلا أن هذه المرة كان سبب تأخره، عطب أصاب محرك سيارته، فبقي عالقا في وسط الطريق المؤدية إلى المدرسة، طال بحثه عن سبب العطب، وهو يمتص سيجارة بنهم شديد، فيتسلل دخانها عابثا بين شعرات شاربه الكث.
كان الجو بادرا جدا، والرياح تعصف بقوة، فتبعثر تركيزه، وتلاعب أطرف معطفه الغليظ، بدأت قطرات المطر بالنزول، فازداد ضجره، وبينما هو كذلك رن هاتفه المحمول، أخبر المدير أنه عالق في الطريق، وحال ما يشتغل محرك سيارته سيلتحق بالمؤسسة.
توقفت سيارة أجرة بجانبه، ألقى سائقها تحية على مدرسنا لكنه لم يتفاعل معه، فاستمر باحثا عن مكمن العطب غير آبه به، تفحص سائق سيارة الأجرة ملامح «مدرسنا» فإذا به يتذكر أنه هو ذاك المدرس الذي سبق أن أوصله إلى مقر عمله، كما تذكر تلك العصبية والأسلوب السلبي الذي كان يميزه، فازدادت رغبته في التعرف عليه أكثر، لعله يكون له عونا في التخلص من معاناته لا سيما وأن سائق سيارة الأجرة، يحمل شهادات عليا في علم النفس وعلم الاجتماع، إلا أنه لم يقدر له أن يشتغل في ميدان تخصصه، مع أنه كان يحب ميدان التدريس إلى حد النخاع.
اقترب من المدرس، وأخذ ينظر بتمعن إلى المحرك، رغم غزارة المطر، فإذا به يرى أنبوبا متدليا، فأشار لصاحبنا بأن أنبوبا من الأنابيب التي تنقل الوقود مقتلع من مكانه، لكن مدرسنا لم يهتم بنصيحته، وهو يقول دون أن يلتفت إليه:
ـــ إنها سيارتي، وأنا أملكها منذ أن عينت كمدرس، أجابه السائق:
ــ أعرف سيدي، ولكن أريد مساعدتك، حتى لا يحرم التلاميذ من حصة اليوم.
ــ كيف؟ تعرفني؟ منذ متى؟ أنا لا أعرفك، طلب السائق منه أن يناوله البرغي، فانحنى إلى الأرض قائلا:
ــ بسم الله، فانزعج المدرس من سماعها كعادته، أمسك السائق بالأنبوب ثم نهض وأرجعه إلى مكانه، وهو يقول:
ـ أنسيت أنني أوصلتك مرة، وكنت مستعجلا، ومتوترا جدا.
ــ آه… تذكرت ولكنني لم أكن يوما متوترا، نظر السائق إليه بتمعن شديد، فجال في خاطره أن هذا الشخص لو اطلع على حاله، وفهم سبب معاناته، لكان قد قطع شوطا لمساعدة نفسه على العلاج، في هذه اللحظة، سأل المدرس السائق:
ـ مالك تتأملني؟ فرد السائق:
ــ لا، لا…هيا اصعد وأدر المفتاح، ما هي إلا لحظة قصيرة حتى سمعت للمحرك هديرا، فانشرح المدرس، أراد أن يخبر المدير بأنه قادم، لكن تعبئة هاتفه نفدت، قذف به على مقدمة سيارته وهو يقول: ــ تبا لهذا الهاتف، ناوله السائق هاتفه، لكن «مدرسنا» رفض، وانطلق كالسهم الخارق، وهو يصيح يمكن أن تجدني في مقهى النهضة.
كان من المفروض، أن يتقدم المدرس بشكر جزيل للسائق، لكنه مع الأسف لم يفعل، تبسم السائق ابتسامة الساخر، لكن ضميره ألح عليه أن يربط علاقة مع «مدرسنا» لأنه أحس بأنه يعاني من عقد ربما تكون سببا في عدم تواصله مع الناس، بله تلاميذه الذين يشاركونه الفصل على طول الموسم الدراسي.
كان جل التلاميذ اتفقوا على ألا تضيع تلك الحصة منهم، طلبوا من أحدهم أن يقدم عرضه الذي كان مقررا في مادة أخرى، تغيب مدرسها لعذر صحي، كان العرض شيقا تمتع غالب الزملاء بطريقة إلقاء زميلهم للعرض، مع استفادتهم الجيدة التي حصلوها خلال نصف ساعة من الوقت مكتشفين أن المواد بينها تقاطعات ونقط مشتركة، إلا أن مدرسنا حل بينهم كالصاعقة، فما أن دخل القاعة، حتى ألقى سؤاله في تهكم شديد على التلميذ العارض:
ــ من الذي رخص لك بهذا؟ يا لك من أستاذ، ستنقذ البشرية من الجهل، هيا مكانك، وازداد حنقه حينما لمح عناوين ومعلومات متعلقة بمادة غير مادته، فوجه كلامه اللاذع للجميع:
ـــ إنكم في مرتبة الخونة، أنتم لا تستحقون أن تحضوا بشرف التعلم، نكس الجميع رؤوسهم، أرادت تلميذة أن تشرح له الأمر قائلة:
ــ أستاذ، لقد تأخرت ولم يكن من عادتك، فرأينا ألا نضيع الوقت، مستغلينه، في الاستفادة من عرض زميلنا، مع العلم أن المادة لها تقاطعات وعلاقة وطيدة، مع المادة التي تدرسها، فرد غاضبا:
ــ اسمعي يا مذلة أبيها، العلاقة بين المواد جد نسبية، ولو كان الأمر كذلك، لاكتفينا بمدرس واحد، مفهوم؟
أخرج طبشورا وراح يكتب على السبورة، طالبا منهم أن يسجلوا كل ما يكتبه، لربح الوقت الذي ضاع، ملأ السبورة كتابة، ولما انتهى من الكتابة، كان الجرس يرن معلنا بالخروج، أخبرهم بأن الحصة القادمة سيخضعون لمراقبة مستمرة، لاحت علامات استفهام على وجوه التلاميذ، حمل محفظته الجلدية وانصرف مخلفا وراءه تساؤلات أنستهم فوائد عرض زميلهم.