الاستغراب في فكر الدكتور عابد الجابري -7- (الانتصار للعقلانية الغربية) تتمة د.عبد الله الشارف كلية أصول الدين/كلية الآداب تطوان

لقد أوضح “بنفنيست” صلـة المنطق بالنحو حينما برهن أن المقولات المنطقية كما ذكرها أرسطو هي نقل لمقولات اللغة الخاصة باليونانيين، مصطلحات فلسفية ليس إلا. ويقول سنة 1952م: “فتبين أن المقولات الذهنية وقوانين الفكر لا تقوم، وإلى حد بعيد، إلا حين تعكس تمضية المقولات اللسانية وتوزيعها”.
إن كل الأبحاث اللسانية الحديثة، من دي سوسير إلى ريتشارد وأوغدن وإلى شومسكي؛ تبين أن العلاقات النحوية في اللغات هي علاقات منطقية، أي تعكس في بنيتها التصور السببي في منظور أمة ما للعلاقة بين العلة والمعلول. وبذلك يكون الجرجاني على حق حين يقول في باب توخى معاني النحو: “ليس الغرض بنظم الكلم إن توالت ألفاظها في النطق، بل إن تناسبت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقـل”. أي معقول اللغة في ذاته.
وهو ما يشرحه بعد قليل في قوله إن “معاني النحو التي يقصدها ليست بمجرد رفع الفاعل ونصب المفعول -فذلك من ثوابت اللغة-“، إنما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك العلم بما يوجـب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز، كقوله تعالى: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ)… مما يجعل الشيء فيه فاعلا على تأويل يدق ومن طريق تلطف، وليس يكون هذا علما بالأعراض ولكن بالوصف الموجب للإعراب. فإسناد الربح إلى التجارة وليس إلى التاجر هو النقلة المجازية التي تحتاج إلى تأويـل، فيكون لدينا المعنى، ومعنى المعنى الذي نستخرجه بطريقة استدلالية»1.
ومع كـل هذا فإن الأستاذ الجابري ينتقد السيرافي قائلا: “واضح أن السيرافي هنا يرفض العقل الكوني”2.
إن الدراسات المنطقية واللسانية الحديثة تؤكد على موقف السيرافي وتؤيد حدسه بوجود منطق داخلي في كل لغة يمكـن أن يؤسس منطقا عقليا منسجما معها، في حين أن الجابـري يقبل أن يكـون لليونانية منطقها ويجعله “منطقا كونيا” ويرفض أن يكون للعربية منطقها ويسميه “منطقا استدلاليا”.
والخلاصة أن هـؤلاء المستغربين الذين يحاولون استنبات عقلانية على الطريقـة الغربية في أرض أجنبيـة عنها يضربون -كما يقال- في حديد بارد، ويعتبرون استيراد الأفكار والنظريات من قبيل استيراد التكنولوجيا وأدوات الإنتاج.
كما أنهم غدوا مأسورين بفكرة عالمية الحضارة الغربية وكون ثقافة الغربيين أصبحت ملكا للناس أجمع، والحداثة الغربية أعلى أنواع الحداثات الإنسانية، وبالتالي فإن تبني العقلانية أو الوجودية أو البنيوية من قبل مثقفي العالم ينبغي أن يعتبر أمرا بديهيا وطبيعيا .
إن هذا الموقف الارتجـالي يقـوم على خطأين رئيسين:
أولهما تجاهل الهويات الذاتية والخصوصـيات الثقافية للشعوب المختلفة والإسلامية منها خاصة، واعتبار ذوبان وانصهار تلك الهـويات في الهوية الغربية أمر حتمي يفرضه منطق التطور والتقدم.
وثانيهما عدم الإحاطة العميقة بالأسبـاب والشروط التي أفرزت العقلانية الغربية والآليات المنطقية المتحكمة فيها. ذلك أن التربـة التي أنبتت العقلانية الحديثة في الغرب كانت تتميز بظواهـر تنـدر مثيلاتها في التاريخ البشري، وعلى رأسها ظاهرة العداء بين الدين والعلم.
لقد كان هذان العنصران ملتحمين ومنسجمين أيما التحام وانسجام على مدى التاريخ الإسلامي الزاهر، وكانت المعرفة الإسلامية منبثقة أساسا من العقيدة ومرتبطة بالنفحات الإلهية المنعم بها على المسلمين.
وإذا كان اكتشاف علماء الإسلام للسنن الكونية والاجتماعية، واطلاعهم على شتى الأسباب الظاهرة والمباشرة التي تحكم حركة الكون والمجتمع لم يمنعهم من الاقتناع بأن هذه السنن مرتبطة بمشيئة الله وإرادته، فإن عملية اكتشافها مجددا من قبل الغربيين في العصر الحديث -بعد اطلاعهم على الإرث الفكري والحضاري للمسلمين- صاحبتها نزعة عدائية لكل ما يمت إلى الكنيسة والدين بصلة، مما أدى إلى الخروج عن الدين وتحطيم القيد الذي قيدت الكنيسة به العقل ومنعته من التفكير.
وهكذا طفق المذهب العقلي رويدا رويدا يتجه نحو إبعاد الخالق وما فوق الطبيعة من الكون. ومن ثم حلت الأسباب والقوانين الطبيعية محل السبب الحقيقي وهو الله؛ وأصبحت بديلا عنه.
وإذا كانت عقلانية عصر النهضة وما بعدها قد أغلقت كل منافذ المعرفة إلا العقل الذي تركته يسرح حيث يشاء، فإن “العقلانية التجريبية” التي سيطرت على الفكر الأوربي منذ القرن التاسع عشر الميلادي، قد أغلقت كل منافذ العقل إلا التجربة والحس! وتلك هي اللعنة التي نجا منها الفكر الإسلامي الأصيل حين كان المسلمون مستقيمين على نهج الإسلام الصحيح.
يتضح مما سبق أن ولادة العقلانية الحديثة لم تكن ولادة طبيعية ومنطقية وسليمة، وإنما تمت في ظروف عصيبة أشد ما كان يميزها نقمة شرائـح عريضة من المجتمع الأوربي على الكنيسة والمسيحية المحرفة.
إن موقف العقلانية الأوربية إزاء الدين وعلوم ما وراء الطبيعة وافق مسيرة تطور العقلانية خلال القرون الحديثة والمعاصرة، ومن ثم فإن المستغربين العرب من أنصار العقلانية استمدوا تصورهم مما انتهى إليه المذهب العقلاني الغربي، وتقمصوا شخصية أقطابه واستوحوا أفكارهم، وجعلوا يحاولون تطبيقها على التراث الإسلامي.
لقد ولدت الحداثة الفكرية في أوربا إلى حد كبير على قاعدة القيم والمفاهيم والمخيلة والأهداف والمطالب الروحية والاجتماعية التي حددتها من قبل الثقافـة المسيحية والغربية عامة، حتى أن بعض المحللين قد وصفوا فلسفة هيجل بأنها إعادة صياغة وتخريج في ثوب حديث وعلماني للمسيحية.
وهذا يعني أخيرا أن للثقافة تاريخا لدى كل مجتمع، وأن من غير الممكن حذف هذا التاريخ بجرة قلم باسم عقلانية كونية قياسية، وأن العقلانية هي مسألة ثقافة لا مسألة علم. بل إن عقلانية كل جماعة أو بالأحرى كل حضارة هي التي تحدد للعلم مقامه ودوره وحدود عمله وآفاق تطوره.
فالعلمانية وهي شكل أساسي من أشكال العقلانية السياسية في الغرب، تجد تاريخها في الصراع بين الكنيسة والمجتمع، وهو صـراع ناجم عن سياق تكون المسيحية وطبيعة تركيبها الإيديولوجي والمؤسسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 -د.محيي الدين صبحي؛ أثر اللغة العربية في العقل العربي عند باتاي والجابري، مجلة دراسات شرقية (جمعية الدراسات الشرقية باريس) عدد:817، ص:123.
2 – الجابري: تكوين العقل العربي، ص:257 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *