من هدْي النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم (3/3) بقلم لطيفة أسير

12- نشر المودة والمؤاخاة بين المتعلمين:
على المدرّس العمل على غرس بذور المحبة في صفوف المتعلمين، وخلق جوّ حميمي داخل الفصل، بعيدًا عن البغضاء والحقد الذي يشحن العلاقات بشحنات سلبية تؤثر على الجو العام للقسم، ولهذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة المنورة على بسط بساط الأخوة أولا بين المهاجرين والأنصار، قال ابن حجر: “فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، وليستعين الأعلى بالأدنى” (السيرة الحلبية ج2 ص28).
وبهذا يمكن للتلاميذ النجباء أن يحدبوا على من هم دونهم مستوى ومساعدتهم على الرقي بهم معرفيا وتجاوز مختلف العراقيل التي تُجابههم في الدرس.
13- ممازحة المتعلمين والبسط معهم:
الجديّة أمر مطلوب ولا مناص منه، لكن هذا لا يعني أن يكون الأستاذ عبوس الوجه متجهّمًا، بل لا بد من كسر هذا الحاجز بين الحين والآخر بطريقة لا تجعل المتعلم يستهتر به أو ينقص من شأنه. ولهذا فالرسول صلى الله عليه وسلم مع جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، كان دائم الابتسام، يمازح صحبه بما يجعل السرور يتسربّ إلى قلوبهم دون استئذان، فقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: ما رأيت أحدا أكثر مزاحا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت في النبي صلى الله عليه وسلم دعابة. وعن بعض السلف: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مهابة، فكان يبسط الناس بالدعابة. قال صلى لله عليه وسلم لعمته صفية: لا تدخل الجنة عجوز، فبكت، فقال لها وهو يضحك: الله تعالى يقول: (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا) (السيرة الحلبية ج3 ص440).
ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم صهيبا يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه، فقال له: “تأكل رطبا وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك صلى الله عليه وسلم” (السيرة الحلبية ج2 ص33).
14- وضع ميثاق شرف:
يستحب للمدرس عند بدء الموسم الدراسي وضع ميثاق شرف بينه وبين الطلبة، تُحدَّد من خلاله قوانين يجب على الطرفين الالتزام بها ضمانًا لموسم دراسي موفّق، فيكون كلّ طرف على بيّنة بواجباته وحقوقه. وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم لبِنة لهذا الأساس حين كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود، أي بني قينقاع وبني قريظة وبني النظير: أي صالحهم على ترك الحرب والأذى: أي أن لا يحاربهم ولا يؤذيهم، وأن لا يعينوا عليه أحدًا، وأنه إن دهمه بها عدو ينصروه، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم. (السيرة الحلبية ج2 ص124).
وقد دأبتُ منذ سنوات على وضع هذا الميثاق بيني وبين تلامذتي، وكان لهذا أعظم الأثر في نفوسهم.
15- اختيار ألقاب محمودة:
لئن كان ديننا الحنيف قد نهى عن التنابز بالألقاب لِما في ذلك من إساءة للآخر وتنقيص منه، فإن المناداة بالاسم الطيب أمر محمود وغير منبوذ لِما له من أثر إيجابي في النفس خصوصا إن صدرت من شخص له مقام رفيع وقدر عظيم في النفس. لذا لا ضيْر أن يخصّ المدرس بعض تلاميذه بألقاب جميلة تتناسب مع فعل أو أثر طيب بدَا منهم، لقب من شأنه أن يحفزهم كـ”القارئ” أو “الصحفي الصغير” وهكذا. وقد كنّى الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة ودّان عليّا بأبي تراب حين وجده نائما هو وعمّار بن ياسر وقد علق به التراب، فأيقظه عليه الصلاة والسلام برجله وقال له: “قم أبا تراب” لِما يرى عليه من التراب: أي الذي سفّته عليه الريح” (السيرة الحلبية ج2 ص173).
16- القدوة الحسنة:
قد يعلمنا السلوك مالم تستطع آلاف الحروف غرسه فينا، لذا وجب على المدرس أن يكون كتابا يمشي بين طلاّبه يتصفحونه فلا يبصرون به إلا كل جميل في القول والفعل، فيكون قدوتهم وأسوتهم. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل الأعلى حتى قالت عنه أمّنا عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)، فكان صلى الله عليه وسلم (لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق والمسألة، لا يقطع على أحد حديثه، ولا يتكلم في غير حاجة، يعظم النعمة وإن دقّت، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. وإنّما يغضب إذا تعرض للحق بشيء وعند غضبه لذلك لا يثنيه شيء عن الانتصار له، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويتفقّد أصحابه ويسأل عنهم، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدًا زاره، وإن كان مريضًا عاده، ويسأل الناس عمّا الناس فيه، أفضل الناس عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مواساة، لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه) (السيرة الحلبية ج3 ص442).
وبعد، أخي المعلم:
حين اصطفاك الله لحمل رسالة الأنبياء، فقد أعلى شأنك ورفع قدرك، وجعل سبيل الجنة ممهدا أمامك، فاحرص على الإخلاص التام وأنت تحمل هذا المشعل، واجعل قدوتك حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي ألان له الله بإخلاصه وإرادته وعزيمته كل العقبات، ضع نصب عينيك هدفا أسمى ترقى برقيه، ولا تتوانَ أو تتقاعس عن رسالتك بداعي الظروف القاهرة، ولا تجعل الهاجس المادي يتحكم في سير عطائك، كن القائد الذي ترنو الأجيال للسير خلفه. كن ذاك المدرس الكفء الذي يغذي عقل متعلميه بالمعارف التي يجهلونها، ويبدّد الإشكالات الفكرية التي تعرض لهم، ولا تكن جاهلا بالمادة التي تلقّنها إياهم فتفقد احترامهم لك وتنعدم ثقتهم بك. كن لهم القدوة التربوية التي صار يفتقدها بمحيطه الأسري أو المجتمعي، ودعْ خلقك وسلوكك يعَبّران عن رقيك الروحي والفكري، فأنت مدرسٌ، منكَ يتعلم التلميذ أبجديات الحياة.
دعهم يبصروا فيك العدل والإنصاف، وأنت توزع اهتمامك على كل تلاميذ الفصل، فلا تُحابي أحدًا، ولا تضع اعتبارًا لأبناء الأعيان دون أبناء الفقراء. ولا تولِي اهتمامك للنجباء وتصفع غيرهم باللامبالاة أو بكلمات تخجلهم وتفتّ في عضدهم.
كن صبورًا وقدّم لهم نموذجا محمديّا في تحمل مصاعب الحياة وهم يبصرونك تمتص سوء أدبهم بحلمك، وتداوي جهلهم بعلمك، ولا يعني هذا أن تخضع أو تتذلل لهم، بل تواضع في غير منقصة، وكن ليّنًا في غير ضعف. فهكذا كان معلمك الأول صلى الله عليه وسلم، وبجميل الأثر الذي تركه لهجت ألسنة الأعداء قبل الأحباب بالثناء عليه وعلى نهجه وسيرته: يقول المستشرق البريطاني وليم موير-نقلا عن د. راغب السرجاني- في إحدى مقالاته: “كانت السهولة صورة من حياته كلها، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقلِّ تابعيه، فالتواضع، والشفقة، والصبر، والإيثار، والجُود صفات ملازمة لشخصه، وجالبة لمحبَّة جميع مَنْ حوله، فلم يُعرف عنه أنه رفض دعوة أقلِّ الناس شأنًا، ولا هديةً مهما صغرت، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصُّه بإقبال وإن كان حقيرًا، وكان إذا لقي مَنْ يفرح بنجاحٍ أصابه أمسك يده وشاركه سروره، وكان مع المصاب والحزين شريكًا شديد العطف، حَسَنَ المواساة، وكان في أوقات العسر يقتسم قُوتَهُ مع الناس، وهو دائم الاشتغال والتفكير في راحة مَنْ حوله وهناءتهم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *