محاورة خاصة بين عروسين في ليلة الزفاف 2/2 سمير بن الضو

انتفضت عروسه كما ينتفض العصفور الذي بلله القطر، ونزعت عنها جلباب الحياء، وقاطعته قائلة:
اعلم يرحمك الله أني فتاة نشأت في أسرة ملتزمة ومحافظة، نرى العيب عيبًا فننكره، ونرى الخير خيرًا فنأمر به، وهذا لأنني رُبِّيت بين يدي أبوينِ يعرفان الله حق معرفته، ويخشيانِه حق خشيته، وأنا لم أرشف من صدر أمي لبنًا، بقدر ما رشفتُ منه صدقًا ووقارًا وحياءً، وأمانة وعفة ووفاءً.
واعلم أني ما خرجت من منزلنا قط إلا وأنا ممسكة بيد أبي، مُدنية عليَّ من جلبابي، غاضَّة طرفي، لا أكلم أجنبيًّا وإن كان فيه هلاكي، وإني ذاكرة لك عدة أشياء يطمئن بها قلبك، وتهدأ لها نفسك، مجملها أني لم أكُ أعرف مثل هاتيك العَلاقات العابرة، التي تصلب أصحابها في الأخير على جذع مِن ندم وحسرة، ولم أكُ أعرف حبًّا غير حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت من الأحاديث النبوية الشريفة ما يُجنبني أن أقع في الفاحشة السوآء، ووعيت من الذكر الحكيم ما يعصمني من غدر الزوج وخيانته.
واعلم يرحمك الله أن أمي علَّمتني طاعة زوجي، والسهر على راحته ما وجدت إلى ذلك سبيلًا، وإني إن شاء الله خادمة بين يديك، ما لم تعصِ فيَّ الله، وإني إلى رضاك لساعية، وفي إسعادك لمجتهدة.
ووجه الفتى متهلِّل جذلان، وما إن أمسكت عروسه عن الكلام، حتى بادرها قائلًا: والله قد أعجبني ما قلتِ وسرَّني، ثم قالت له مرة أخرى: أتدري؟ عندما جئت أنت وأهلُك في خِطبتي، حينها حدَّثني أبي في أمرك، وخيَّرني في الزواج بك، فقلت له: ما لي يا أبي في الزواج من حاجة؛ فإني ما زلت أرغب في إتمام دراستي، وقبل هذا يا أبي فإني ما زلت صغيرة، ولم أكمل ربيعي التاسع عشر بعد.
لم أقل لأبي ما قلت إلا تهربًا وفرارًا مما ليس منه بد، وآليت في نفسي ألا أتزوجك أبدًا؛ مخافة أن أوافق فأعيش حياتي كلها مع رجل قد يكون في عبادته مترنحًا، وفي صلاته متسامحًا، حتى دخلتْ أمي عليَّ غرفتي وقالت: يا بنيتي، إني والله لأعرف ما في نفسك من هذا الأمر، ولكني أبشِّرك فطِيبي خاطرًا، قد علمتُ من أخته أنه صوَّام قوام، عابدٌ زاهد، وعبادته ما بين رجاء وخوف، يعرف الله حق معرفته.
وما كادت أمي تفرغ من كلامها حتى اطمأن قلبي وعاد لسكينته، وما إن رأيتك حتى انشرح لك صدري، وانجلى عني غمي، ووالله ما كنت أقبل الزواج منك لو لم تكن كما أخبرتْني أمي عنك، ووالله لو لم تكن لله طائعًا، ومن عقابه خائفًا، ولأمره سامعًا، ما قبِلتك، ولا ارتضيتك لي زوجًا أبدًا.
أجابها الفتى قائلًا: وايم الله، لقد أعجبني ما سمعت منك، وسرَّني كثيرًا كثيرًا، أنا يا عزيزتي لست إلا بشرًا أخطئ وأصيب، ولعلَّ أخطائي تكون أكثر من إصاباتي، وإني أريد منك أن تكوني لي كالرقيب الحسيب، كلما رأيتِ مني هفوة في ديني، وعثرة في عبادتي، رُدِّيني إلى جادة الصواب، واعلمي أني لم أرِدِ الزواج إلا لأعف فرجي، وآمن على نفسي من الفاحشة، وأُرضي ربي، فكُوني لي كما أريد يرحمك الله، أكن لك كما تريدين، واجعلي ديننا يغلب على دنيانا، ولا تحفلي بسفاسف الأمور وتوافهها؛ فإني أربأ بك عن أن تقعي في مثل ما تقع فيه النساء الأخريات اللائي لا يفكرن إلا في تغيير أثاث المنزل، أو شراء مجموعة كاملة من أدوات التبهرج والتزين؛ فأنت أجلُّ وأرقى من هذه الأمور السخيفة.
وإني أريدك إن نمتُ عن صلاة الفجر أن توقظيني، وإن عزفت عن قراءة القرآن أن ترديني، وعلى صلة رحمي شجِّعيني، وأوصيك بأوراقي وأقلامي وكتبي خيرًا؛ فأنا رجل يعشق الكتاب والكتابة، فهي بالنسبة لي كنَبيذ النصارى أو أكثر، فهم لا تأتي عليهم ساعة من نهار إلا وقد رشفوا من نبيذهم قداحًا تلو القداح، وأنا لا تأتي عليَّ ساعة من نهار أو ليلٍ إلا وأنا أقرأ أو أكتب، فالكتابة بالنسبة لي روضة من رياض الجنة، أجد فيها كل مبتغاي ومناي.
ولعلكِ مع مرور الوقت، وتعاقُب الجديدين، تضجرين من كتبي وأقلامي، فكم من مرة أستيقظ في دجنَّة الليل، وأعكف على القراءة، وكم من مرة بذلت كل ما أملك من مالٍ لشراء بعض الكتب، فإذا لمست مني هذا، فاغفري وتجاوزي؛ فلست بمُنتهٍ عن مصاحبة الكتاب والقلم أبدًا.
قالت: تالله لقد آثرتُك على نفسي، وصرتَ الآن أحب إليَّ من أمي وأبي، وقد كبر قدرك في نظري، وعظمت نفسك في خلدي، فليس هناك شيء أحب إليَّ من الكتاب ومن القلم، فكم من مرَّة أكون مغضبة حتى أرى الكتاب، فأكظم غيظي وأرجع إلى سكوني وهدوئي؛ ذلك أن أبي لَمَّا كنت في صغري كلما رآني أبكي ناولني كتابًا من مكتبته، فأهدأ وأكف عن البكاء.
فقال لها الفتى: أحببت فيك كل هذا وأكثر، ولكن لا بد لي من أن أعرف موقفك من إقامتنا التي ستكون ها هنا في دارنا، مع أمي وإخوتي، فإني لا زلت لا أقدر -على الأقل في هذه المرحلة- أن أشتري بيتًا أستقل به، فهل تستطيعين أن تصبري معي في هذه المدة؟
قالت: ويحك، ما كان أغناك عن قول مثل هذا الكلام، إن لم أصبر على زوجي، فعلى مَن أصبر؟ ثم إني لست أريد منزلًا مشيدًا، أو قصرًا منيفًا، فكل هذا ليس غايتي؛ إنما غايتي فيك أنت، أنت وحدك، ما دمت تحبني.
فقال لها: إني أحبك، وسأبقى أحبك، وإني لأشعر أني أحبك منذ زمن بعيد، وأمد مديد، ولطالما كنت أدعو في صلاتي أن ألتقي بمثلك، وإخالُ أن الله قد استجاب إلى دعائي، وناولني ما أحب وأرضى.
ثم بدا السرور على محيَّاهما معًا، فكانت تنظر إليه وتبتسم، وكان ينظر إليها ويبتسم، فدار بينهما كلام غض ناعم، لم يستطع يَراعي اصطيادَه وقنصه، كان يقول لها قولًا كأنه السِّحر أو أشد سحرًا من السحر نفسه، أو كأنه قولٌ قد خطِفه من أفواه الملائكة في السماء، ثم جاء ليلقيه في مَسْمَعَيْها، وكانت تقول له كلامًا كأنه الماء العذب، حين يتسلل من بين أفانين الأشجار المتكئة على ضفاف الأنهار الجارية في الرياض الغنَّاء.
ثم دبَّ في الغرفة صمتٌ اقشعر له جسد الفتى، صمتٌ يشبه تعويذة قديمة من عهد الآشوريين، لم تقطعه إلا كُليماتٌ قليلاتٌ من كلام الشوق والصبابة والحنين، ولم ينتهِ هذا الصمتُ إلا حين مال الفتى نحو آخر شمعةٍ، فأطبق على فتيلتها بإبهامه وسبابته حتى أطفأها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *