قضية الاستشـهاد بالحديث في اللـغة بين مانعِـيها ومُجـوِّزيها د. فريد أمعضشـو

لا مناص من الإشارة، ها هنا، إلى أنّ دارسين يؤكدون أنّ لُغَويّينا، القدماء والمُحْدَثين، لم يمنعوا إطلاقاً الاستدلال بالحديث في تحقيق الكلمات، وإثباتها، وتبيانها، وتوثيقها، وإنْ سجّلوا عدم حصول إجْماع مُماثِل في البِيئة النحوية؛ مِنْ مُنطلَق أنهم رأوا عدداً من متقدِّمي النحاة العرب والمسلمين ومتأخِّريهم غيرَ مُسلِّمين بذلك الاستدلال على بناء القواعد والأحكام النحوية.
وبمُكْنَتِنا تصنيفُ المؤلفات اللغوية التي يحضر فيها المُكوِّن الحديثيّ إلى أصناف، أبرزها المعاجم اللغوية بدْءاً بمعجم “العين” المنسوب إلى ابن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ)، والذي يَعُدُّه الدارسون أولَ معجم مؤلَّف في تراث العربية؛ إذ يحتوي بين طيّاته على عدد من الأحاديث، أتى بها صاحبه في سياق شرحه جملةً من الموادّ اللغوية، وليس بصحيح ما قاله عنه المرحوم شوقي ضيف، في كتابه “المدارس النحوية”، من أنه “هو الذي ثبَّتَ فكرة عدم الاستشهاد بالحديث النبوي”! على أن بعض المُعْجَمات القديمة تمتاز بقلة المادة الحديثية فيها قلةً تنسجم مع منهجها في الاختصار الذي يرد التنصيص عليه في مقدّماتها؛ على نحو ما نجد، مثلا، في مُجْمَل ابن فارس، وصِحاح الجوهري. وفي المقابل، نُلْفي معاجمَ مليئةً بالأحاديث، ولاسيما تلك المُتَّسِمة بطابع التفصيل والتوسيع، وعلى رأسها “لسان العرب” لابن منظور المصري.
وذكر بعضهم، في هذا الصدد نفسه، أن هذه المصنفات اللغوية كانت تأتي، أحياناً، بالنصّ الحديثي على سبيل الاستئناس فقط، لا بوصفه مصدرا أساسيّاً لتقرير قضية لغوية أو لفظ أو توثيقه أو غير ذلك، وعقب إيرادها نصوصاً أخرى أكثر قوة احتجاجيةً، في نظرهم؛ من مثل الآيات القرآنية، والأشعار القديمة، مسجِّلين عدمَ إتيانها بالحديث منفرداً في أيّ مادة لغوية! والواقع أن مثل هذا الزَّعْم يحتاج إلى نظر؛ ذلك بأننا نلفي في جملةٍ من المعاجم المادة مشروحةً ومدعومة بنصّ حديثي أو أكثر فقط، أو معالَجة بالتوسُّل بجملة نصوص، من الوحي والشعر وغيرهما، يتقدّمُها جميعاً حديث نبويّ.
وبالإضافة إلى معاجم اللغة، نقف على أحاديث في ألوان أخرى من التأليف اللغوي، ذكر صاحبُ دراسة “الحديث النبوي الشريف وأثرُه في الدراسات اللغوية والأدبية” جملةً منها. إذ تحضر، بدرجات متفاوتة، في كتب غريب القرآن (مثل مفردات الراغب الأصبهاني)، وكتب غريب الحديث النبوي (مثل تأليف أبي عبيدة المعروف في هذا المجال بوصفه أولَ ما ألِّف في غريب الحديث، وهو كتابٌ مطبوع ومحقَّق)، ومعاجم الفقه (من مثل “تهذيب الأسماء واللغات” للنووي)، وكتب الأبْنية (ككتاب “الأفعال” لابن القطاع)، وكتب الهَمْز (كما يظهر في الأبواب الأولى المخصّصة للهمز في “المُخَصَّص” لابن سيده الأندلسي)، وكتب لحْن العامّة (مثل “لحن العوام” للزُّبيدي)، وكتب المُعَرّب (كمصنف الجواليقي المعروف في هذا الباب اللغوي).
فالاحتجاجُ بالحديث في ميدان اللغة أمرٌ ثابت، لا مجال إلى إنكاره، ولم يعترضْ عليه أحدٌ من المتقدمين والمتأخرين على السواء، بالنظر إلى ما قدّمه الحديث النبوي من نصوص وافرة خَدَمتْ الدرس اللغوي والبلاغي والأدبي كثيراً.
وإن الأمر لَيَكاد ينطبقُ على الدرس النحوي والصرفي أيضاً لولا تحفظُ بعض القدماء من ذلك؛ لاعتباراتٍ سبقت الإشارة إلى أغلبها. الأمرُ الذي يدعو، حقا، إلى التساؤل عن علة ذلك، مع أنّ البدهيَّ هو تجويز الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو معاً، وإنْ لم نقل ضرورة ذلك في أحايين كثيرة. وهو تساؤلٌ عبّر عنه أحدُهم بقوله: “ما الذي حدا المتقدمين الأوائل أنْ يتحفظوا إزاء الاستشهاد بالحديث النبوي في الدرس النحوي هذا التحفظ، ولا يكون لهم مثل هذا الموقف في الدرس اللغوي أو الأدبي أو البلاغي؟ هل فسّروا لنا موقفهم هذا؟ وهل من سرٍّ يكمُن وراء هذه المظاهر الفريدة؟!”.
وبين الموقفين المانِع والمُجَوِّز، تبنّى فريق ثالثٌ من علمائنا موقفا وسطاً من قضية الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو، وزعيمُهم، بلا مُنازع، هو أبو الحسَن الشاطبي (ت 790هـ)، في شرْحه على الألفية الذي وَسَمَه بـ”المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية”. فهو لم يمنع ذلك الاحتجاج مطلقاً، مثلما لم يسمح به مطلقا.
بل إنه، في الواقع، عارَض المانعين، ورَماهم بالتناقض، وأخذ عليهم ترْكَهم المقصودَ للأحاديث، وعدم الاستشهاد بها، مع أنها آية في الفصاحة والبلاغة والمتانة؛ إذ إنّ الناطق بها، كما في الحديث الشهير، أُعْطِيَ جوامعَ الكَلِم ومفاتِحَه؛ الأمر الذي يوهّلها لتكون من المصادر المهمة لأهل اللغة عموماً، لدى إقبالهم على تقعيد العربية، وضبط ألفاظها، وتحديدها، وتوثيقها.
وهو -من ناحية أخرى- لم يوافقِ المُجيزين الدّاعين إلى الاستدلال مطلقا بالأحاديث، دون تردُّد ودون تمييز؛ على نحو ما نجد لدى ابن مالك الأندلسيّ. فالمادة الحديثيّة، في نظر الشاطبي، قسمان: قسمٌ يصحّ الاستشهاد به في اللغة والنحو وغيرهما من العلوم اللسانية، ولا ينبغي الاختلاف حوله، وهو ستة أنواع كالآتي:
– ما يُروى بقصد الاستدلال به على فصاحته عليه الصلاة والسلام؛ كقوله: “حَمِيَ الوَطيس”، وكالأمثال النبوية، وككتابه لوائل بن حجر.
– ما يروى من الأقوال التي يُتعبَّد بها، أو أُمِرَ بالتعبُّد بها؛ كألفاظ التحيات، وكثير من الأدعية التي كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات خاصة.
– ما يروى على أنه كان يخاطب به كلّ قوم من العرب بلغتهم.
– الأحاديث التي وردت من طرق مختلفة واتّحدتْ ألفاظها، ممّا يدلّ على أن الرواة لم يتصرّفوا في لغتها.
– الأحاديث التي دوّنها مَنْ نشأ في بيئة عربية سليمة لم تعرف انتشار اللحْن؛ كمالك بن أنس.
– ما عُرف من حال رُواته أنهم لا يُجيزون رواية الحديث بالمعنى؛ كابن سيرين، والقاسم بن محمد.
والقسمُ الآخَر يضمّ أحاديث لا يجوز الاحتجاج بها، ولا ينبغي الاختلاف في أمْرها هذا، ويَقصد بها الشاطبي تلك المنقولة بالمعنى دون اللفظ، وتلك التي لم تدوَّن في الصدر الأول، وإنما تُروى في بعض كتب المتأخرين. ويُضاف إليها الأحاديثُ المُنطوية على ألفاظ شاذة، أو هي محلّ غمز بعض المحدّثين لها بالغلط أو التصحيف غمْزاً لا مردَّ له. وإنّ تسرُّب مثل هذه القوادح إلى رواية بعض الأحاديث ليس مدْعاة إلى ترْك الاحتجاج بالمادة الحديثية كلها بصفة مطلقة، بل يقتضي “ترْك الاحتجاج بهذه الأحاديث فقط، وحمْله على ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة. وقد وقع في الأشعار غلط وتصحيف، ومع ذلك فهي حجّة من غير خِلاف”؛ كما قال د. محمود فجال. (مرجع مذكور، ص ص 131 – 132)
وفي ختام هذا المقال، نخلص إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ علماءَنا قد اختلفوا في قضية الاحتجاج بالحديث النبوي في اللغة والنحو على ثلاثة أقوال؛ أحدها يَمنع، والثاني يُجيز، والثالث يتبنى موقف التوسُّط بين الأَوَّلَيْن.
مع ملاحظة أنّ منهم مَنْ تحفَّظ حِيال استثمار المادة الحديثية والاستدلال بها في الدرس النحوي، بخلاف مجال اللغة الذي كان أهلُه مُجْمِعين على جواز الاستشهاد بالحديث في إثبات الألفاظ، وتحديدها، وتوثيقها.
والواقع أنّ التقعيد اللغوي والنحوي، والخوض في ميادين العلوم اللسانية العربية، اعتمدا ثلاثة مصادر أساسية: القرآن الكريم، والحديث النبوي، وكلام العرب شعرا ونثراً إلى حدود نهاية عصر الاحتجاج باللغة. وهذا ما يَلْمسُه كلّ متصفِّح للتراث اللغوي والنحوي لدى العرب منذ أقدم العصور؛ هذا التراث الذي دأب على الاستدلال بالحديث كلّما سَنَحت السياقات بذلك، وعلى تقديمه، غالباً، على كلام العرب، وهو جديرٌ بذلك لِمَا يتّسم به من فَرادة وسُموّ بلاغي وبيانيّ؛ ومن هنا، تنبع أهمية اعتماده في الدرس اللغوي والنحوي.
يقول ابن الطيب، في مؤلَّفِه “تحرير الرواية في تقرير الكفاية”، داعياً إلى رُكوب مَرْكَب الاحتجاج بالأحاديث في علوم اللغة بعامّة: “وهذا الذي ينبغي التعويل عليه، والمَصير إليه؛ إذِ المتكلم به -صلى الله عليه وسلم- أفصح الخَلْق على الإطلاق، وأبلغ مَنْ أعْجَزَت فصاحتُه الفصحاءَ على جهة العموم والاستغراق. فالاحتجاجُ بكلامه -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أفصح العبارات، وأبلغ الكلام، مع تأييده بأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، من المَلِك العلاّم، أوْلى وأجْدَر من الاحتجاج بكلام الأعراب الأجْلاف، بل لا ينبغي أن يُلتفَت في هذا المقام لمقالِ مَنْ جار عن الوفاق إلى إجراء الخلاف”.
وقد ثبت ممّا تقدَّم أن الدعوة إلى رفض الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو مَرَدُّها إلى ما رَوَّجه أبو حيان وابنُ الضائع، في وقتٍ لاحق، منطلقَيْن من أن متقدِّمي النحاة لم يكونوا يستشهدون بالأحاديث في تصانيفهم، ولم يكونوا ينصّون على ذلك، وقد فهموا من هذا أنهم رفضوا ذلك الاحتجاج، فراحوا يلتمسون التعليلَ المُقنِع لذلك. والواقع أنهم كانوا يُومِئُون إلى كتاب سيبويه المعروف. ولوْ صحّ أن بعض قدمائنا لم يستدلوا بالأحاديث في الدرس اللغوي والنحوي، فذلك ليس معناه، إطلاقاً، أنهم كانوا يمنعون ذلك الاستدلال، بقدْر ما كانوا يكتفون بإدخالها تحت مُسَمّى “كلام فصحاء العرب”، وقد كان صلى الله عليه وسلم أبلَغَهم وأفصحَهم جميعاً. ويبدو أنّ سيبويه تعامَل مع المادة الحديثية الواردة في كتابه بهذه الطريقة، فأدْرَجها ضمن هذا الكلام من غير نَصٍّ على أنها أحاديثُ نبوية شريفة.
ولئن سجّل دارسون قلة احتجاج القدماء بالحديث في إقرار أحكام النحو، وإثبات القواعد الكلية، مقابلَ إجْماعهم على الاحتجاج بالمادة الحديثية في إثبات ألفاظ اللغة وتوثيقها وتصحيحها، إلاّ أن المتأخرين، في المشرق والمغرب الإسلاميين معاً، قد “اعتمدوا الحديث أيَّ اعتماد في فروع العربية جميعا؛ في اللغة والنحو والصرف والبلاغة والبيان، وليس ذلك إلاّ استمرارا لموقف السابقين في هذه الميادين، وتنمية واتساعاً في مبدإ الاحتجاج بالحديث في ميدان النحو على وجه الخصوص”؛ كما قال الأستاذ محمد حمادي في كتابه “الحديث النبوي الشريف وأثرُه في الدراسات اللغوية والأدبية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *