الحمد لله أما بعد، فإن المطالع في أحداث التاريخ قديما وحديثا، والمتأمل في القصص النبوي ومقاصده يستخلص استخلاص تحقيق وتقرير أن إبليس لم يتراخى كيده للنيل من النبوة والأنبياء منذ أن طرد.
وقد بان منه حرص كبير فيما جيشه من شياطين الإنس -المنافقين في بلاد المؤمنين بالوحي والنبوة خاصة- والجن على إفساد عقائد الناس بالشبه والشهوات، وما بثه من عقائد فاسدة، وما تنزلت به شياطينه على قلوب ضعفاء العقول والقلوب، وكان يعلم جيدا أن الطريق الأنسب لذلك، لتحقيق انتقامه في كيده أن يسقط حقائق النبوة من قلوب المؤمنين، حتى يفصل الناس عن الوحي، حتى إذا فصلهم، انفرد بهم ضعافا ضعف الخرفان أمام ذئب محترف.
يعد مصطلح الزندقة من المصطلحات التي اقترنت بمصطلح الباطنية وما يدور في فلكه كثيرا، وقد قيل إن أصلها فارسي معرب من “زن دين”، أي على دين المرأة، وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان، وقال ابن دريد: «قال أبو حاتم: الزنديق فارسي معرب، كأن أصله عنده زنده كرد، زند الحياة وكرد العمل أي يقول بدوام الدهر».
وقيل: إن الزنديق نسبة إلى الزند وهو تأويل لكتاب البستا الذي جاء به زرادشت إلى الفرس، وكان من أورد في طريقتهم شيئا بخلاف المنزل عندهم الذي هو البستاه وعدل إلى التأويل الذي هو الزند قالوا هذا زندي فأضفوه إلى التأويل وأنه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، فلما أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس وقالوا: زنديق وعربوه، كما في مروج الذهب، ونقل عنه ذلك ابن خلدون في التاريخ، وخلاصة هذا التأصيل اللغوي أن للمصطلح ثلاثة تجليات دلالية، النفاق والقول بقدم العالم ودوامه والتأويل التحريفي، وإنما تطفو منه دلالة من الدلالات الثلاثة وفق السياق الدافع.
ومن ذلك أن المالكية تقابل بين الزندقة والنفاق مقابلة مطابقة، ويستشهدون بقول مالك حين سئل عن الزنديق: «ما كان عليه المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان وكتمان الكفر هو الزندقة عندنا اليوم».
وسيزحزح ابن العربي المصطلح إلى معنى أخص فيقول: «وإنما يقع اسم الزنديق على المعطل الذي لا يقر بالصانع، ويزعم أن الناس يتكونون من غير خالق لهم، ولا مبدئ لهم ولا معيد، وأن البارئ تعالى قد فرغ من جميع الأشياء، لا يحدث شيئا وإنما تصدر عنه الحادثات»، وهذا موافق للمعنى الثاني للزندقة.
أما ابن حجر فيسمي ويرى أن «التحقيق ما ذكره من صنف في الملل أن أصل الزنادقة أتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك»، وقولهما قريب التوافق مع ما في معجم لاروس (السبيل) من أن للزندقة خمسة مرادفات هي:
Athèisme;Incroyance; Irréligion;Manicgeisme;Doalisme
أي أنها ترادف عندهم مصطلحات: الإلحاد والمانوية والثنوية، وسيتسبب هذا في وجوب تسليط أنوار كاشفة عن مصطلح الإلحاد أيضا فيما سيأتي.
يذهب ابن عربي الحاتمي كما في التفسير المنسوب إليه إلى أن الزنديق هو الذي يقول بإباحة المحرمات، ونسب في الفتوحات للجنيد قوله: «لا يبلغ درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق» وهذا أمر مشكوك في صحة نسبته إليه، وزاد «وذلك لأنهم يعلمون من الله من لا يعلمه غيرهم».
ومصطلح “الزنديق” مما فات الدكتورة سعاد الحكيم في معجمها، فينضاف معنى رابع إلى مجموعة المعاني السابقة وهو الإباحية.
وعن سهل بن عبد الله التستري قال: «إنما سمي الزنديق زنديقا لأنه وزن دق الكلام بمخبول عقله، وترك الأثر وتأول القرآن بالهوى». وهذا يطابق المعنى الثالث السابق، وفي كلام التستري إشارة لطيفة إلى تماثل بين لفظة “زنديق” وقوله “وزن دق”.
ويخلص عندي من كل هذا مسألتان، الأولى أن مصطلح الزندقة مجموعة دلالية من أربعة معاني حائمة، الدهرية أو الإلحاد والتأويل التحريفي والإباحية والنفاق، وقد كان المتقدمون يطلقون هذا الوصف على كل من عرف عنه اشتغال بعلوم الأوائل، لاجتماع كل أو بعض تلك المعاني الأربعة فيه، «فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق».
يبدو أن المصطلح يمتلك مقومات حياة دلالية تمكنه من الاستمرار في أن يكون أداة تحرير وتحليل وتوصيف أثناء الدراسات الفكرية، وسعته الدلالية ترفع عنه وتدفع محاولات التفريد الدلالي في معنى واحد، ولذلك ينبغي الانتباه إلى كل هذا حتى يستفاد منه بطريقة تُسلم الخطاب من أي جنوح عن مقتضاه ومقاصده.
يعني الإلحادُ إنكارَ الدين، هذا ما يفهم مما كتبه عبد الرحمن بدوي في مقدمته القوية عن تاريخ الإلحاد، فلعله أقدر نص على بيان حقيقة الإلحاد وطبيعته وكشف سره، فقصر التعريف يدل على مباشرة في وضع اليد على الحقيقة، ويؤمن الطريق الدلالية إليها، وهو تعريف كاف في مثل هذا البحث المدخلي، وقد كان فيه بدوي موفقا في رفع الستار عن الكامن وراء هذه الظاهرة وبيان مقاصدها.
فبعد أن عرض موقف اليونان من مجمع الآلهة في قولهم بموتها، وتقليد الغرب لهم في ذلك في زعم نيتشه “موت الإله”، يعرض طبيعة الإلحاد في المجال الإسلامي، المختلف في شكله لا في قصده عن سابقيه، قائما على الزعم بموت “فكرة النبوة والأنبياء”، منبها على خطورة دور الأنبياء في الحياة الدينية، فالدين إنما يقوم على مفهوم النبوة، ثم يعلق بما أراه عمق الموضوع فيقول:
«وهذا يفسر لنا سرا في أن الملحدين في الروح العربية إنما اتجهوا جميعا إلى فكرة النبوة وإلى الأنبياء… لذا يجب أن نبصر المعنى الخفي المستتر وراء إنكار النبوة، إذ لا بد أن نفسر هذا الإنكار على أنه يتعداها إلى الألوهية نفسها، لأنه ما دامت النبوة هي السبيل الوحيد الذي تعرفه هذه الروح العربية للوصول إلى الألوهية، فإنها بقطعها إياه قد قطعت في الوقت نفسه كل سبيل إلى الألوهية كذلك» بالطعن والمصادمة.
وهذا شبه تفسير لتعريفه، فهو يقيد الدين المنكر في المجال الإسلامي بالدين الذي يقوم على النبوة لا الدين الوضعي، وبالتالي يجوز وصف بعض الأديان الوضعية بالإلحاد كالعلمانية التي صرح “Vincent Peillon” بأنها دين الجمهورية الفرنسية التي وضع في مقابل الوحي السماوي إذا كانت تسلك مسالك الدهرانية.
ولي تذييل على ما قرره عبد الرحمن بدوي لا أرى جواز إهماله وإغفاله، وعلى نفس طريقة بدوي في جعله الطعن في النبوة طعنا في الألوهية بطريق اللزوم، أنبه على أن الطعن في النبوة والأنبياء ليس بالأمر الهين السهل، ولذلك سيحتاج بعض أهل الإلحاد المتسترين إلى النزول قليلا حيث تقل الرقابة وتضعف، ولن يكون هذا النزول إلا إلى الصحابة رضي الله عنهم، وهنا تبدأ قصة أخرى…!