لم يمنع الشارع من الكلام في المساجد منعا كُليا، بما في ذلك الكلام في أمور الدنيا، بل ورد ما يدل على جواز ذلك. لكن محل الجواز ألا يكون على وجه الإغراق كما سيأتي بيانه ([1]).
فَعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، «كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ، أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ»([2]).
وهذا الحديث دليل على مشروعية الحديث بالكلام المباح في المسجد؛ قال النووي: “يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد، وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات وإن حصل فيه ضحك ونحوه، ما دام مباحا لحديث جابر بن سمرة”([3]).
ذم الإغراق في حديث الدنيا في المسجد:
هذا هو الضابط الأول؛ لأن الأصل في المساجد أنها بنيت لذكر الله وإقام الصلاة قراءة القرآن… ومتى ما غلب على حديث الناس حديث الدنيا في المساجد، كان ذلك سببا للذَّمِّ، كحال من جعلوا المساجد نوادي للغو، وأحاديث الدنيا والاجتماع على شرب الشاي والقهوة، وألوان الطعام والله المستعان.
فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قومٌ يَكُونُ حَدِيْثُهُم فِي مَسَاجِدِهِمْ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حاجة»([4]).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَحَلَّقُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَلَيْسَ هِمَّتُهُمْ إِلَّا الدُّنْيَا لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ»([5]).
قال الجراعي الصالحي: “يُسَنّ أن يصان –أي؛ المسجد- عن لغط وكثرة حديث لاغٍ، ورفع صوت بمكروه”([6]).
التحذير من رفع الصوت في المسجد:
والضابط الثاني هو عدم رفع الصوت بما يتأذى به رواد بيت الله، فإن رفع الصوت منهي عنه ولو كان بالقرآن الكريم.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه، قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ»، أَوْ قَالَ: «فِي الصَّلَاةِ»([7]).
قال ابن عبد البر: “وَإِذَا نُهِيَ الْمُسْلِمُ عَنْ أَذَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي عَمَلِ الْبِرِّ وَتِلَاوَةِ الْكِتَابِ فَأَذَاهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا”([8]).
فهذا الحديث قد دل بمنطوقه على النهي عن رفع الصوت بالقرآن، ودل بمفهومه على النهي عن رفع الصوت بعموم الحديث… قال أبو الوليد الباجي: “وإذا كان رفع الصوت بقراءة القرآن ممنوعا حينئذ لإذاية المصلين؛ فبأن يمنع رفع الصوت بالحديث وغيره أولى وأحرى، لما ذكرناه ولأن في ذلك استخفافا بالمساجد واطراحا لتوقيرها وتنزيهها الواجب، وإفرادها لما بنيت له من ذكر الله تعالى قال الله العظيم ﴿وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اَسْمُ اُ۬للَّهِ كَثِيراۖ ﴾ [الحج: 40] ([9]).
وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ا، قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا – أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ – قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: «لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ»([10]).
التنبيه على أخطاء متعلقة بالصوت:
- من الظواهر السيئة في المساجد؛ جرأة بعض ملازمي المساجد وبخاصة من الـمُسِنِّين، على عمار بيت الله… فتجد الواحد منهم ينهر هذا ويصرخ في وجه هذا ويسب هذا ويعنف هذا، لا يفرقون بين محق ومبطل، ولا بين عامد وساهٍ، ولا بين جاهل يحتاج التعليم والرحمة ومتعنت معاند،… وهؤلاء عياذا بالله ينتشرون في أغلب المساجد يَدَّعُون -بلسان حالهم- الوصاية على بيوت الله، وهم ينفرون عباد الله من المساجد، ويحولون بين المؤمنين وبين الطمأنينة في بيوت الله… وحقهم أن ينصحوا وأن يوعظوا فإن لم ينتهوا فليرفع أمرهم إلى القضاء ليُكَفَّ عن الناس شرهم، ويمنع عنهم ظلمهم وجرأتهم على بيوت الله، وعلى حرماته.
وما أجمل كلام حافظ المغرب ابن عبد البر، حين قال استنباطا من حديث نهي آكل الثوم والبصل من دخول المسجد: “وَفِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ آكِلَ الثّومِ يُبْعَدُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَيُخْرَجُ عَنْه،ُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَا يَقْرَبْ (مَسْجِدَنَا أَوْ) مَسَاجِدَنَا، لِأَنَّهُ يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّوم،ِ وَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ في إخراجه مِنَ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يُتَأَذَّى بِهِ؛ فَفِي الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ جِيرَانُهُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَكُونَ ذَرِبَ اللِّسَانِ سَفِيهًا عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَطِيلًا، أَوْ كَانَ ذَا رِيحَةٍ قَبِيحَةٍ لَا تَرِيمُهُ لِسُوءِ صناعته، أو عاهة مؤذية كَالْجُذَامِ وَشَبَهِهِ، وَكُلُّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ إِذَا وُجِدَ فِي أَحَدِ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ وَأَرَادُوا إِخْرَاجَهُ عَنِ الْمَسْجِدِ وَإِبْعَادَهُ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ لَهُم،ْ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً فِيهِ حَتَّى تَزُولَ، فَإِذَا زَالَتْ بِإِفَاقَةٍ أَوْ تَوْبَةٍ أَوْ أَيِّ وَجْهٍ زَالَتْ كَانَ لَهُ مُرَاجَعَةُ الْمَسْجِدِ”([11])ومن الأخطاء كثرة الخصومات في المساجد بسبب أو بغير سبب، وكثرة الممازحات.
(يتبع)
————————————
([1])اختلف الفقهاء في الكلام في المساجد:
فذهب الحنفية إلى تحريم الكلام المباح في المسجد.
وذهب المالكية والحنابلة إلى كراهة الكلام في المساجد بأمر من أمور الدنيا.
وذهب الشافعية إلى جواز الكلام المباح في المسجد لكن لا ينغي الإغراق والإكثار. [أنظر الموسوعة الفقهية الكويتية (35/118-119)]
([3]) المجموع شرح المهذب (2/177).
([4]) رواه ابن حبان في صحيحه، الإحسان (6761) وصححه الألباني في الصحيحة (1163).
([5]) رواه الحاكم في المستدرك (7916)، وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ووافقه الذهبي.
([6]) تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد (ص:349).
([7]) رواه أحمد(11896)، رواه أبو داود (1332)، وأورده الألباني في الصحيحة (1603).