حمل المغاربة على فتح صدورهم لمالك والأشعري والجنيد -الحلقة الخامسة- الدكتور محمد وراضي

قدمنا باختصار قواعد طريقة الجنيد، فما هي شروطها كما وضعها صاحبها نقلا عن كتاب “الطرق الصوفية” الموجود بالخزانة العامة بالرباط ضمن مجموع 637 ك، من ص:90 إلى ص:135. والذي لم أطلع شخصيا عليه، وإنما اعتمدت فيما أريد الاستشهاد به على ما ورد في هامش ص:82 من “الحركة الصوفية بمراكش” المتقدم ذكره للدكتور حسن جلاب. بحيث إن العهدة على الراوي الذي لم يذكر اسم مؤلفه ولا تاريخ تأليفه. مما جعل الشكوك تحوم حول ما اعتبره شروطا للطريقة عند الجنيد. 

شروط طريقته ثمانية هي على التوالي: دوام الوضوء. الخلوة. نية الاختلاء. المداومة على الذكر. دوام الصوم. ترك الخاطر. دوام ربط القلب بالشيخ. دوام الرضا بقضاء الله. وترك الاعتراض على الله وعلى الشيخ.
وسؤالنا الأساسي حيال هذه الشروط هو: ما مدى صلتها بالكتاب والسنة؟ وحتى بالمأثور عن الصحب الكرام والتابعين وكبار العلماء والأئمة؟ وذلك حتى تتأكد لدينا سلامة مذهبه الصوفي.
1- دوام الوضوء: أول شرط في طريقة الجنيد، وعلى الراغبين في اتخاذه قدوة أن لا يظلوا بغير وضوء ليل نهار! إنما ما الذي عليهم فعله في الأحوال البشرية العادية؟ فنزول الحدثين عليهم. نقصد الأصغر والأكبر، يلزمهم الوضوء والغسل، فضلا عن إمكان إصابتهم بمرض ما في حالتي الإقامة والظعن! فضلا عن عدم وجود الماء مما يضطرهم إلى التيمم! فضلا عن كون دوام الوضوء متعذر حال قيامنا بأكثر من واجب دنيوي وديني! فبيننا عمال أجراء، وتجار وصناع إلى آخره.
فهل يصح توقفهم عن أعمالهم لتجديد الوضوء كلما أحدثوا وهم في أدائهم لها منهمكون؟ والحال أنهم ماضون في الامتثال لقوله تعالى: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ”.
إن دوام الوضوء بمثابة دخول في مشقة لم يحملنا على الدخول فيها لا الله ولا الرسول، فكيف نقبل إذن بلزوم ما لا يلزم، والدين يسر لا عسر؟ حتى القرآن الكريم، أباح لنا ديننا قراءته بلا وضوء، مع أنه أفضل ذكر، بل إن الذكر من بين أسمائه حيث قال سبحانه: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ”.
هناك حالة واحدة باستطاعتنا أن نظل فيها متوضئين إلى حد ما، هي أن نترك مزاولة أي نوع من أنواع العمل لأجل الكسب، ونتفرغ للعبادة وحدها، أو نصبح -بلغة الصوفية- متجردين منقطعين، بحيث يتحمل عنا الآخرون توفير كل ما نحتاج إليه من لوازم المعاش! تماما كما يدعو الغزالي لهذا الطرح ويدافع عنه! وهو طرح قبله ومارسه أكثر من صوفي مغربي، والعربي الدرقاوي من بين ممارسيه! والحال أنه شاذلي الطريقة! والشاذلية لا تدعو إلى التجريد، وإنما تلح على ضرورة أو على وجوب التكسب، خاصة وأن اليد العليا -كما قال سيد الناس- خير من اليد السفلى.
2- الخلوة: لغويا للخلوة معنيان: مكان يختلي فيه الإنسان، وانفراده بنفسه قصد التعبد. واصطلاحا يقول القشيري في رسالته: “إن الخلوة صفة أهل الصفوة. والعزلة من أمارات الوصلة، ولا بد للمريد في ابتداء حاله من العزلة عن أبناء جنسه، ثم في نهايته من الخلوة لتحققه بأنسه”.
ثم يضيف “ومن حق العبد إذا آثر العزلة أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره، ولا يقصد سلامته من شر الخلق. فإن الأول من القسمين: نتيجة استصغار نفسه. والثاني شهود مزيته على الخلق. ومن استصغر نفسه فهو متواضع ومن رأى لنفسه مزية على أحد فهو متكبر”.
ومن آداب العزلة يقول القشيري: “أن يحصل (المعتزل) من العلوم ما يصحح به عقد توحيده، لكي لا يستهويه الشيطان بوساوسه، ثم يحصل من علوم الشرع ما يؤدي به فرضه ليكون بناء أمره على أساس محكم. والعزلة في الحقيقة اعتزال الخصال الذميمة. فالتأثير لتبديل الصفات، لا للتنائي عن الأوطان. ولهذا قيل: من العارف؟ قالوا: كائن بائن، يعني كائن مع الخلق، بدائن عنهم بالسر”!
ونخلص مما قاله القشيري إلى وجود نوعين من الخلوة أو من العزلة. خلوة تبعد صاحبها عن مخالطة الناس، وخلوة تلقي بصاحبها في أحضان مجتمعه. ويبدو أن من بين الصوفية من اختار المعنى الأول لها، ومن بينهم من اختار المعنى الثاني.
يقول الجنيد: “مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة”! مما يفهم معه اختياره للابتعاد عن الاختلاط “وذلك لاختلاف أخلاق الناس وما يبدو من أذاهم، وما يحتاج إليه معهم من الحلم والصفح”.
3- نية الاختلاء: شرط لا يحمل جديدا يستدعي الوقوف عنده، فكل عمل نقدم عليه تسبقه النية أو القصد.
4- المداومة على الذكر: قبل ظهور التصوف الطرقي، كان الحديث يدور حول الأحزاب والأوراد، يعني قراءة القرآن والإكثار من الصلاة والأدعية والتسبيح والتحميد والتهليل وما إليها من أذكار مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المأثور عنه أفضل من غير المأثور عنه، وإلا كنا كمن يستدرك عليه بترك سنته والإقبال على التعبد بما وضعناه نحن، مع ما في هذا الإقبال من إساءة إليه! والحال أن ما تركه لنا يغطي مجال الأدعية والاستغفار والثناء والتمجيد والشكر وما في مجراها مما يتقرب به العبد إلى ربه لنيل مرضاته.
وللحديث بقية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *