لدينا الزيارة والزائر والمزور، مما يجعلنا نتساءل مبدئيا عما يقصده الزائر من وراء أية زيارة يقوم بها إلى مقدس ذي شهرة وذي مكانة في قلوب الملايين؟ وعما إذا كانت هناك زيارة عرضية، لا يقصد القائم بها تحقيق أي هدف بعينه؟ وعما إذا كان الزائر متأكدا، أو غير متأكد من تحقيق هدفه من أية زيارة يقوم بها بمفرده أو في جماعة؟
إن كانت الزيارة تعني الحضور بقصد رؤية شخص، أو بقصد الالتقاء به، فإن المزور من باب المنطق الديني والعقلي، لا يمكنه بأي وجه من الوجوه، أن يلبي جميع طلبات زائره أو زواره. هذا إن كان المزور من الأحياء. أما إن كان من الأموات، فإن الوافدين عليه لتقديم ملفهم المطلبي إليه، آملين منه الحصول على ما يتضمنه، لا يعتبرون أبدا -لا في نظر الدين، ولا في نظر العقل، ولا في نظر التجربة- من العقلاء الأسوياء! وإنما هم من المخبولين الذين يطلبون المستحيل!
بكل تأكيد، الزيارات متنوعة، والزائرون جنسياتهم وهوياتهم مختلفة، والمزورون مشاربهم وقدرتاهم متباينة! وقد نميز هنا بين زيارة تتم بدون موعد محدد، وبين أخرى لا تتم إلا بعد علم المزور بصاحبها وبوقتها، وأحيانا حتى بغرض الزائر منها، مما يبدو معه كيف أن الزيارة بعد تحديد الموعد، وقبول المزور بها عن طيب خاطر، تثمر أكثر مما تثمر الزيارة المفاجئة التي لم يكن المزور أثناءها على استعداد تام لتخصيص جزء من وقته للقادم عليه، خاصة وأن التواصل الآن من خلال الرسائل المتبادلة، أصبح إلى حد بعيد في خبر كان!
فانتشار الهواتف الثابتة والنقالة على أوسع نطاق، سهل عملية تحديد المواعيد، دون أن نعرف ما إذا كان المزورون المقدسون من أولياء الله الصالحين، يتوفرون على الراقية من هذه ومن تلك! ولو أننا لم نتأكد من وجود الأسلاك الناقلة للكلام المتبادل بين الزائر والمزور داخل القبة! أو داخل الدربوز المستطيل المحيط بقبر المقدس! لأننا في كل الأحوال لا نتصور الراقد المستغاث به نكرة في ثلة من أقرانه ومعارفه قبل أن يدفن بعيدا عن الجيران، لأن من فعلوا به ما فعلوه، يعتقدون أنه لا يزال يواصل التعبد في الخلوة، وأن دفنه إلى جوار غير المقدسين مثله، قد يؤدي إلى التشويش عليه، وهو ماض مستغرق في مناجاة ربه! إضافة إلى أنهم سوف يدنسون سيادته بفعل الآثام المحيطة بهم من كافة الجوانب!
ومتى صح عندنا أن الزيارة بعد موعد متفق عليه بين طرفيها، أفيد لهما من تلك التي لم يقع عليها اتفاق مسبق. فكيف يمكن للزوار أن يحضروا إلى حرم المقدس، والحال أن وجوده حيث هم يقصدونه غير مضمون؟
أولا: هل فرغ من كون المزور المقدس أصبح من الهالكين؟ أم إن المتشبعين بالثقافة القبورية، لديهم من البراهين النقلية والعقلية ما يؤكد عدم مفارقة روحه لجسده، مباشرة بعد وفاته؟
ثانيا: إن كانت لديهم هذه البراهين، فليس عيبا منا إن نحن طلبنا منهم أن يدلونا على مظانها في الكتاب أو في السنة؟ وذلك حتى تطمئن قلوبنا فنشاركهم في طقوسهم المتبعة، وهم يؤدون واجب التقديس للمزور الجالس، أو الراقد، أو القائم في قبره، أو عنده على بعد أمتار منه؟
ثالثا: قد يقتنع القبوريون بأن مزورهم المقدس قد مات، وأن روحه قد فارقت جسده، وأن هذا الجسد بالذات هو الذي واروه الثرى لا روحه!
رابعا: قد يقتنعون، وقد لا يقتنعون -وهم المنتمون إلى عالم الكون والفساد كبقية الخلق- بأن عظام المتوفين سوف تصبح مع مرور السنين نخرة! ثم تصبح لاحقا مع مرور أخرى مجرد رميم! وإلا كان ويكون عليهم تكذيب مضمون هاتين الآيتين: “يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً”؟ ثم “مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ”؟
خامسا: إن اقتنع القبوريون بفحوى الآيتين، فمع من يتحدثون متى وقفوا حيث ينحنون! وحيث يقبلون! وحيث يلثمون ويتمرغون ويستغيثون ويتوسلون ويبكون ويستبكون؟ هل يتحدثون إلى الأجساد التي تأكد أن الديدان قد أتت عليها في ظرف وجيز؟ أم يتحدثون إلى العظام التي أصبحت بنص القرآن نخرة ثم رميما يشبه الهباء بفعل التقادم؟
سادسا: لنلق إذن وراء ظهورنا -نزولا عند رغبة القبوريين- بمنطق الدين القاضي بكون الموت يعني خروج الروح من الجسد! وبكون عظام الموتى سوف تسحق في النهاية حتى تصبح مجرد تراب لا يحمل أي إشارة إلى أنه كان في يوم ما هيكلا عظميا لإنسان هالك! ثم لنلق ثانيا وراءها بمنطق العقل القاضي برفض استمرار التواصل بين الأحياء والأموات! بحيث يخاطب أحدهم الآخر فيسمعه، ويدرك ما يستفهمه عنه، وما يطلبه منه! ولنلق ثالثا خارج مملكة العقول والتأملات بمنطق التجربة القاضي بتعرض جثت الميتين للتحلل، وأن مصيرها بالتحديد هو ما نص عليه الكتاب المبين بما يكفي من الوضوح!!!
ومتى ضربنا بالمنطق الثلاثي المتقدم عرض الحائط، فإننا سوف نحاول مجاراة المخدوعين المخدرين بالمخدر الصوفي الطرقي والقبوري، علنا نحصل منهم على إجابات طالما تطلبتها تساؤلات أرقت مضاجعنا، واستدعت منا محاورة أكثر من معلمة ظلامية، إنما حتى الآن بدون ما جدوى!
لقد استفدنا من كتب القوم، كيف أن الأولياء المزورين، لم يكونوا قيد الإقامة الجبرية كالمعتقلين السياسيين! خاصة متى منعوا من مغادرة منازلهم ولو حتى إلى زيارة الأهل والأحباب والأصدقاء! فالولي الصالح له كامل الحرية في ملازمة قبره متى أدركه النوم! أو متى أرهقه الإعياء! كما أن له كامل الحرية في الجلوس بعيدا عن ضريحه! وكامل الحرية في الإقامة والظعن متى أراد وكيف أراد وأنى أراد! فضلا عن كونه يحج في كل سنة! فضلا عن كونه يعبد ربه! إذ لا يعقل أن يكون حيا في قبره، يتلقى الطلبات والشكايات ويلبي الرغبات! ثم لا يؤدي ما عليه من واجبات مفروضة عليه شكرا لله كبقية المؤمنين! إنما -بحسب منطق الهداة المهديين- لا يمكنه أن يضيف إلى ملفه الذي تم طيه بموته ولو حسنة واحدة!
حتى إن هو تفانى في خدمة زواره إلى حد أنه لا يرد إليهم طلبا! هذا إن أمكن للميت أن يواصل جني ثمار أعماله التعبدية وهو هالك؟ أو لم يسمع القبوريون -إن كان لديهم اهتمام ما بالمنقول من النصوص- قول المرتضى صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”؟
ولنقل إنهم على علم بهذا الأثر الواضح الدلالة. إنما هل هم على بينة من بعده الديني والإنساني الذي يرمي إعلامنا به نبي الهدى كمؤمنين؟
إن المزور المقدس من آبناء آدم، ولا نتصوره واحدا من سليل الأبقار والحمير والسباع والضباع! فما يسري على المنتمين جميعهم إلى أمة محمد بن عبد الله يسري عليه! فقد كان مثلهم في حياته يعمل بكامل حريته. مرة يصيب ومرة يخطئ. تسجل حسناته كما تسجل سيئاته. لكنه عند انقضاء أجله فور وفاته، لم يعد بمقدوره أن يعمل! فلا هو قادر على نفع نفسه! ولا هو قادر على نفع غيره! فقير إلى الله وهو حي! كما أنه فقير إليه وهو ميت! يحتاج إلى الأحياء، ولا يحتاج الأحياء إليه! هذا ما ينطق به أدب الزيارة كما حدده محمد الصادق المصدوق!
لكن الظلاميين خصوم الوضوح ورسول الوضوح والبيان الشافيين، يقدمون إلينا نوع العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المزور المقدس وبين زواره، غير أنهم -للأسف الشديد- لم يخبروا المغفلين المخدوعين بأن المقصود بالزيارة لم يكن على الدوام رهن إشارة من يشدون الرحال إلى ضريحه؟
فإذا صح أنه يغادر محل إقامته لأسباب متعددة! وإذا صح أنه يؤدي الواجبات الدينية من صلاة، ومن قراءة للقرآن، ومن ذكر ودعاء واستغفار وتضرع، ومن حضور إلى المساجد القريبة والبعيدة لأداء الصلاة في جماعة، فإنه لا يستطيع التفرغ لاستقبال الزوار، وبالتالي للنظر فيما يتقدمون به إليه من طلبات تستدعي السرعة في التنفيذ، فيكون عليه حينها أن يستعين بكاتب شخصي كي يتولى إدارة مملكته الصغيرة بحضوره أو أثناء غيابه! فلو حضر زائر -بدون موعد- إلى مقامه وهو مستغرق في ذكر ربه، فإنه لا يسعه من باب الأدب معه، أن يصغي إلى من يخاطبه! خاصة وأن مخاطبة المصلي الذي يناجي ربه، بمثابة تشويش عليه غير مقبول، بحيث إنه يصرف العابد عن التركيز على محور تعبده! أما وجود كاتب أو كاتبة متخصصة لتنظيم زيارة المقدس، فعمل يبعد عنه أي تشويش يمنعه من مواصلة ما هو منهمك في أدائه من عبادات، تقربا منه إلى من بوأه المكان الرفيع السامي حتى ينتفع به الخلق!
ولنا هنا سؤال وجيه يفرض علينا نفسه: إن كان المقدس ينفع قصاده وهو ميت فهل يجازيه ربه على العمل الخير الذي يسديه إلى زواره؟ هذا السؤال سوف نخصص للإجابة عليه في المقبل من الأيام مقالا في محاولة لإقناع من طرحه علينا من أصدقائنا ومن معارفنا!
نقول: إن كانت لإحدى سيدات مجتمعنا المبتلى بالثقافة القبورية رغبة في التقدم إلى المقدس لطلب إنجاب الأبناء، فكان أن حضرت إلى الضريح وصاحبه غير موجود به، لأنه مسافر إلى بلدة بعيدة لزيارة صديق له أو صديقة! فما الذي عليها أن تفعله؟ هل يفيدها حينها القربان الذي تتقدم به، مقابل علاجها من عقم حرمها لسنوات من إنجاب فلذات الأكباد؟ كان القربان ديكا، أو خروفا، أو عجلا على قدر المستطاع؟
سوف يتسلم القربان من يصح وصفهم بسدنة الضريح أو بالقيمين عليه من أحفاده أو من غير أحفاده من المتسلطين على مواقع ظلامية لغاية جني ثمار التظاهر ببيع البركة مقابل (فتوح) تختلف قيمتها من شخص إلى آخر! أما المقدس الذي قدم إليه القربان، فإنه لا شك يجهل نوعه ولونه وحجمه! وإن كان يشم رائحته حين يجري طبخه! وهذه معلومة أفادتنا بها سيدة من هواياتها مرافقة كل راغبة في زيارة ضريح على طول البلاد وعرضها! بحيث يكون فرضا علينا نقلها إلى كل زائر يريد اعتمادها لتوسيع دائرة ثقافته القبورية!
فإن تأكد لدى عقلاء الناس من سادة ومن سيدات مجتمعنا المعاصر، أن الأطباء يعمدون إلى فحص المريض، ثم يعمدون بعد معرفة نوع مرضه، إلى تحديد وصفات باستعمالها يشفى منه ويزول. فإن المزورين المقدسين لا يحتاجون إلى القيام بالفحص، ولا إلى تقديم وصفات يتم تناولها عن طريق الفم أو كحقن! فقط لأن لديهم وصفة واحدة لعلاج كافة الأمراض! كانوا أطباء عامين، أو كانوا أطباء متخصصين في علاج الشلل كأحمد بن عاشر دفين سلا؟ أو في أمراض النفوس والعقول مثل الولي المقتدر الجبار: بويا عمر! مع الاستدراك
فورا بأن وصفتهم الوحيدة هي البركة! إنما ما هي البركة على وجه الدقة؟ سؤال نتوجه به إلى القيمين على تدبير الشأن الديني وفي طليعتهم بكل تأكيد: وزيرنا في الأوقاف والشؤون الإسلامية على اعتبار أنه قبوري طرقي له إلمام بما لم يكن بمقدورنا نحن أن نلم به كإلمامه؟
في كتاب “سلوة الأنفاس، ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس” نقف على درر، وحدهم القبوريون يتقنون الخوض في معامعها كما يتقن العوامون الغوص بحثا عن اللآلئ في أعماق البحار. ومنها قول مؤلفه ناقلا عن ابن الحاج في كتابه “المدخل”: “ما زال الناس من العلماء والأكابر، كابرا عن كابر، مشرقا ومغربا، يتبركون بزيارة قبور الصالحين، ويجدون بركة ذلك حسا ومعنى!”.
وقبل توسيع نطاق موضوعنا أكثر بخصوص الزيارة وأوقاتها وآدابها وتحديد مواعيدها، نتقدم بطلب ملح إلى القبوريين المغاربة أينما حلوا وارتحلوا لتقديم مفهوم البركة التي تحل محل جميع الوصفات الطبية لأجل معالجة الأمراض المعروفة لدى الناس في القديم والحديث! أو المعروفة لدى الأسلاف والأخلاف حتى هذه اللحظات التي نحن من أبنائها؟