هيا بنا نتعرى..! حماد القباج

 

إن “عشق العري” و”حب التعري” مرضان مزمنان يصيبان القلوب التي ضعفت مناعتها الإيمانية أو ماتت.

وهذا النوع من المرض يصعب على صاحبه أن يكتمه في نفسه؛ بل يشعر بدافع ذاتي للجهر به والحديث عنه، والتعبير عنه بأقوى ما يستطيعه من أنواع التعبيرات ..

كما يشق عليه أن يتفرد به، بل يحب أن يراه في كل أحد.

ولذلك نلمس هذا في كلام وسلوك أهل المجون وعشاق الإباحية، لا سيما الشعراء وأصحاب القلم منهم.

وقد ارتبطت هذه الظاهرة بمجال “الأدب” منذ غابر الزمن؛ ارتبطت به لكون الأدب علما وضع للتعبير عن المعاني الجميلة بأفضل الأساليب وأبلغ العبارات، لكن انحراف الذوق جعل كثيرين يعتبرون المجون والتعري من الجمال والحسن؛ ومن هنا لاحظنا اشتمال “التراث الأدبي” على آلاف النصوص الشعرية والنثرية في عشق الجسد العاري والتدقيق في وصفه والتعبير عن حبه إلى درجة تصل أحيانا إلى التأليه والعياذ بالله.

وقد وجد في كل أمة مصلحون ما فتئوا يؤكدون -بدافع ديني أو ذوقي أدبي سليم- انحراف هذا المسلك، وقبح الذوق الذي ينبني عليه.

وعرف هذا الانحراف عند علماء الإسلام باسم: “عشق الصور”، وتتابعوا على عده مرضا قلبيا يحتاج إلى علاج قوي وطويل الأمد…

ولما تفتق الفكر “الحداثي” المعاصر من “الفلسفة المادية الملحدة” التي انتصرت في ثورتها على “النصرانية المحرفة”، دعم ذلك التوجه المرضي في علم الأدب، فيما سمي “أدب الحداثة”.

وقد ظهرت في هذا المجال: (إبداعات)! تؤله التعري وتعتبره شيئا ضروريا في حياة الإنسان، وبرزت الدعوة إلى ثقافة وسلوك العري والتعري.

ولئن نسيت فقد لا أنسى يوم دخلت معرض الكتاب الدولي، فوجدت رواية سماها صاحبها: “هيا بنا نتعرى”!!

فقلت: حقا؛ الجنون فنون، وأعجب فنونه في هذا الباب؛ تسمية هذا الجنون: (أدبا وإبداعا وفنا) لا يدرك قيمته إلا أصحاب الذوق الرفيع!!!

وقد انعكس هذا التوجه على الواقع العملي للناس، واتخذ صورا وأشكالا من أقربها وأكثرها شيوعا ما نلاحظه عند النساء من ميل مفرط إلى اللباس العاري.

ولما كان هذا انحرافا صارخا عن الفطرة الإنسانية والشرائع السماوية وأخلاق الكرامة؛ حاول حملته والدعاة إليه أن يجعلوا له إطارا علميا؛ يغطي ذمامته، ويستر خساسته؛ وكان الإطار هو “علم الاجتماع” و”علم النفس” اللذان حاول البعض أن يوهم بأنهما يدعمان “نظرية العري”، ويزكيان “سلوك التعري”..

والمتأمل في ما يذكره القوم من ذلك لا يرى فيه حقيقة علمية أو معطيات ثابتة؛ وإنما هي الظنون والتخمينات التي تتضخم بدافع الشهوة الحيوانية والهوى الذي يعمي ويصم.

لقد بين الإسلام (وحي الخالق) بوضوح؛ أن التعري سلوك ساقط يتنافى مع الكرامة الإنسانية، وهو مرض يغذيه داعيان أساسيان:

الأول من داخل النفس البشرية: وهو غياب الحياء

والثاني من خارجها: وهو وسواس الشيطان وتزيينه.

وأكد في المقابل أن الستر فطرة بشرية وسلوك حضاري وواجب شرعي يحافظ عليه أهل الإيمان والحياء، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون} [الأعراف/26، 27] وعن معاوية بن حيدة قال: قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟

قال: “احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك”.

فقال: الرجل يكون مع الرجل؟

قال: “إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل”.

قلت: والرجل يكون خاليا؟

قال: “فالله أحق أن يستحيا منه” [رواه الترمذي وحسنه].

وقال عليه السلام: “الإيمان والحياء قرنا جميعا، فإذا ارتفع أحدهما ارتفع الآخر” [رواه أحمد وصححه الألباني]

إن غياب هذه المعاني الشرعية البليغة الجمال والروعة، هو الذي جعل فئاما من الناس يميلون إلى “ثقافة العري” و”سلوك التعري”.

ويا للأسف على مثقفينا الذين لم يأخذوا من الحداثة إلا أزبالها، ولم يمجدوا منها إلا أمراضها؛ أناس أسقطوا من يدهم اليمنى حياءهم وأدبهم الاجتماعي، ومن يدهم اليسرى عوامل التقدم العلمي والصناعي والتقني والاقتصادي، ومدوا اليدين إلى حداثة الفسق والمجون والإلحاد، يلهثون وراءها عطشى جوعى مرضى، يلتمسون فيها الري والشبع والشفاء، وهي لا تزيدهم إلا جوعا وعطشا ومرضا؛ {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} ..

إن (هيستريا) عشق العري والتعري التي أصابت عددا من المسلمين والمسلمات، والتي تجلت في نصوص (أدبية)، ودراسات “سوسيولوجية”، وأفلام سينمائية، وأعمال مسرحية، ومهرجانات غنائية، وإعلانات تجارية .. إلـخ.

إنها تعبير عن الضياع الأخلاقي، والانسلاخ من الهوية والتنازل عن الشخصية، واللهث وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى {إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}.

إنه سراب الهوى والشهوة المتفلتة..

أجل؛ يحسبون أن الحداثة النافعة والرقي والازدهار يؤتى من باب الإباحية والانحراف الأخلاقي؛ بينما يتفق العقلاء أنهما عاملا تفكك وانحطاط  ..

إن المجتمعات الإسلامية تشهد صراعا قويا بين “سلوك الستر والحجاب” الذي يستند إلى النص الشرعي وأدب الحياء والعرف المحتشم والحضاري، وبين “سلوك العري والتبرج” الذي يستند إلى مرض القلب وثقافة الإباحية والأدب الماجن.

وهو صراع يدخل في إطار التدافع بين مقومات الفضيلة وعوامل الرذيلة.

وعلى المسلمين أن يتصفوا بالتعقل والاستعلاء على نزوات النفس الشهوانية ليعبروا بلسان واحد عن رفضهم لهذا السلوك المرضي الدخيل على هويتهم وقيمهم، وعلينا أن نحقق الوعي الذي يجعلنا نقتبس من الحداثة خيرها؛ المتمثل في التقدم في البحث العلمي والتطوير التقني والاقتصادي، ونرد شرها وأمراضها التي يعتبرها الغربيون ضريبة ومكسا، ولم يعتبروها يوما شرطا لتحققها أو بريدا إليها.

وهي ضريبة يمكن أن نتخلص منها نحن إذا تمسكنا بديننا وأخلاقنا العالية، وجعلناها إطارا محيطا بسعينا نحو التقدم والازدهار ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *