عنوان السلسلة حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق..

المقدمة الشعارية للسلسلة
الذل والضعف وفساد العمل .. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.
وطريق إصلاحها في الحوار ..
وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.


الحلقة 11:

مِن أين يمرّ الطريق؟
فروع مفاهيمية
1-العلمانية (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
لن نقف طويلا مع المصطلح واشتقاقه، فقد كادت تتفق كلمة الباحثين على إنكار تعبير هذا اللفظ عن حقيقة المعنى، وأنه من المصطلحات الموروثة التي نضطر إلى استعمالها ولا نملك تغييرها. ونكتفي بأن نقول: إن مصطلح “العلمانية” ترجمةٌ سيئة لمصطلحات غربية، ولا علاقة له بالعلم.
يدور معنى العلمانية على فصل الدين عن الحكم السياسي، أو على إبعاد الدين عن الحياة العامة مطلقا، وحصره في الدائرة الفردية الخاصة.
ويشمل ذلك طريقتين في التعامل مع الدين:
الأولى: التضييق على الدين وأهله، ومنع إظهار شعائره ولو في الحدود الفردية، ما دامت ظاهرة للعلن. وعلى هذه الطريقة يتنزل التضييق على الحجاب والنقاب وعلى الأذان من الصوامع، في بعض الدول الأوروبية. ويختلط الهم العلماني في هذا الباب بالهوس الهوياتي، الذي بات يسكن الوعي الأوروبي، بسبب الانتشار البالغ للإسلام ومظاهره الشعائرية في المجتمعات الغربية.
والثانية: لا تَمنع الدين من الظهور في الدائرة الفردية، وتعدّ ممارسة الشعائر الدينية من قبيل الحريات الفردية المكفولة في الدولة المدنية الحديثة. ولكن الدولة في بنائها السياسي والاقتصادي، وفي تشريعاتها وقوانينها، لا تراعي رأي الدين، ولا تلتفت لموافقة مبادئه، بل تسمح به كما تسمح بضده من الإلحاد واللادينية! وهذا هو الغالب على بعض الدول الأنجلوسكسونية التي تسمح بهامش حرية كبير جدا للشعائر الدينية المختلفة، ما دامت محصورة في الدائرة الفردية الخاصة.
والتمييز بين هذين النوعين، مع التيقن من دخولهما معا في معنى العلمانية المناقضة للإسلام، مما ينبغي بثه في الناس، لكثرة ما يقع فيه من الغلط عند أهل الاختصاص فضلا عمن دونهم.
لقد كانت العلمانية في إرهاصاتها الأولى بالدول الأوروبية، تُميز تمييزا حادا بين السلطة الدينية التي تمثلها الكنيسة البابوية، والسلطة الزمنية التي يرأسها الملوك والسادة الإقطاعيون. وفي ما عدا الإشراف الديني العام، والحرص على عدم مصادمة القرارات الدينية البابوية، فإن السلطة الزمنية كانت تتمتع بحرية كبيرة في تقرير سلطتها على الشعوب، مع اعتماد الحق الإلهي مسوّغا دينيا لتأكيد هذه السلطة. وهذه الصورة الأولى للعلمانية، والتي طغت على أوروبا طيلة القرون الوسطى، لم تعرف لها مثيلا في الأمة الإسلامية. (وهذا الفرق التاريخي مهم جدا في فهم المناعة الفكرية التي لا تزال أمة الإسلام تواجه بها الغزو العلماني، على الرغم من حشده جميع أساليب القوة والبأس في الانتشار).
لكن اشتداد الخلاف بين رجال الدين ورجال السلطة الزمنية على السلطة، مع فساد الكنيسة وما أفضى إليه من نشوء ثورات الإصلاح الديني، جعل العلمانية تتشدد في مطالبها وتنادي بالفصل التام بين الدين والدولة، مع المعاداة لجميع مظاهر التدين، ومحاولة إحلال بعض المذاهب المادية العقلانية محلّه.
لذلك فالأصل في العلمانية -بحسب سياقها التاريخي- أنها كانت حربا على الدين مطلقا، في جميع دوائر الحياة، وهذا الذي يظهر مثلا من خلال تتبع تاريخ الثورة الفرنسية التي وضعت أسس العلمانية الأوروبية الحديثة.
وقد كان من مظاهر هذه الحرب ما بلغ درجة العنف الشديد خلال سنوات الرعب في الثورة الفرنسية! فمن ذلك مثلا:
• إلغاء التقويم الكنسي “الجريجوري”، واعتماد تقويم “جمهوري” يتكون من أسابيع ذات عشرة أيام، وإلغاء يوم الأحد وكل إشارة إلى القديسين، وتغيير أسماء الشهور!
• إجبار رجال الكنيسة على التخلي عن مراتبهم الدينية، ومهامهم الكنسية، وإلا سلّط عليهم سيف التعذيب والقتل والتشريد.
• إجبار رجال الدين الكاثوليك على الزواج، أو على الأقل على تبني طفل صغير أو القيام بشؤون شيخ هرم!
• منع إقامة مراسيم الزواج والجنائز تحت إشراف ديني كنسي، ومعاقبة من ثبت عليه ذلك.
• إغلاق كثير من الكنائس والأديرة، وتدمير محتوياتها من الصور والنواقيس وغيرها.
• إقامة دين جديد هو “عبادة العقل” و”تأليه الكائن الأسمى”!
وهذا التاريخ الدامي للصراع مع الدين، في مقابل العلمنة الهادئة التي عرفتها الملكية البريطانية، ينبئك عن سر تشدد العلمانية الفرنكفونية في عصرنا ضد جميع مظاهر التدين، في مقابل تسامح العلمانية الأنجلوسكسونية مع الطقوس الدينية الفردية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
لكن بعد ردة الفعل الشعبية العامة التي لم تستطع التخلي عن الدين، ولا محاربة رجاله، وقع نوع توافق بين الدولة المدنية الحديثة والدين المسيحي -الذي يحمل بذور العلمانية منذ التحريفات البولسية- جرى فيه حصر الدين في الطقوس الفردية فقط، بعيدا عن أي تأثير على الحياة السياسية أو الاجتماعية.
وقد تغذت العلمانية -فيما بعد- بروافد فكرية كثيرة قوّت توجهها الطاغي في معاداة الدين، خاصة الشيوعية الملحدة، والنظام الاقتصادي الرأسمالي، والنظريات الفلسفية الإلحادية في الطبيعة والنفس والمجتمع وغير ذلك.
بعد هذا نحتاج أن نعرف علاقة العلمانية بأمة الإسلام، وحكم الإسلام في العلمانية. وهذا ما سنذكره في حلقة مقبلة إن شاء الله.
والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *