خصـائـص القرآن باعتباره مصدرا أولا من مصادر المسلمين في التشريع المصطفى خرشيش

تمهيد:
يعتبر القرآن الدليل الأول الذي يحتكم إليه المسلمون في البحث عن أحكام المستجدات التي تتوالى عليهم مع مرور الزمان، إذ هو الكتاب الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:42]، إذ كونه منزل من لدن حكيم خبير هو الأمر الذي يضمن استمراريته عبر الزمان والمكان وصلاحيته لجميع الخلق عربا وعجما ونداؤه للناس كافة.
إذن فما معنى الخصائص؟ وما خصائص الكتاب باعتباره مصدرا أولا من مصادر المسلمين في التنزيل؟
‌أ. الخصائص لغة:
جاء في المعجم الوسيط: «(الخَصِيصَة) الصفة التي تميز الشيء وتحدده (ج) خصائص» . فالخصائص في اللغة هي الصفة المميزة للشيء المحددة له؛ بحيث لا تجعله يختلط مع غيره.
‌ب. الخصائص اصطلاحا:
وأقصد بخصائص في هذا السياق: مجموعة من الضوابط العلمية والمنهجية المرتبطة بالقرآن ومحتواه، من حيث مفهومه وأصله ومصدره وطبيعة استمداده.
يعرفه الغزالي بأنه: «ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا» . لقد ذكر الغزالي في هذا التعريف خصيصتين اثنتين متميزتين، أولاهما: النقل، والثانية التواتر، والتواتر مرتبط بالنقل من حيث جهة المصدر.
لكن ليس المقصود من القرآن أن نعرفه بالتعاريف المنطقية بالحدود والرسوم المعهودة؛ لأن «الحاجة القائمة ليس هي تعريف القرآن، وإنما هي التعريف بالقرآن؛ أي: التعريف بمضامينه وخصائصه ومزاياه. وأفضل تعريف بالقرآن الكريم هو ذكر أسمائه وأوصافه المذكورة فيه والنابعة منه، فهي أوفى وأصدق في التعبير عن حقائقه والتنبيه على كنوزه وأسراره» .
وهذا ما سنركز عليه في خصائصه عندما نقف معها فيما يلي؛ لأن تلك التعاريف المنطقية تقتل روح القرآن الذي لا يحده تعريف ولا تكييف.
إذ القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وهو حجة الله على خلقه منذ بعثة محمد إلى قيام الساعة، وهو النص القطعي المتواتر المعجز للخلق عربا وعجما، لذا ينبغي أن تراعى في تنزيله الخصائص التالية:
‌ج. خصائص الكتاب:
1. أنه كلام الله تعالى وهو وحي متلو وألفاظه ومعانيه من عند الله؛ ذلك أن: « كلام الله تعالى واحد، وهو مع وحدته متضمن لجميع معاني الكلام» .
فهو واحد من حيث إنه لا تناقض فيه ولا تباين؛ لأنه صادر من عند الواحد الأحد، بخلاف كلام البشر. وهو متضمن لجميع معاني الكلام؛ لأنه صالح لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، إذ هو منهج الحياة كلها؛ لذا ينبغي في التعامل معه الاحترام والتأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه، والدقة في فهمه، والعمل بأحكامه؛ لأن «من خواص القرآن أن ألفاظه ومعانيه من عند الله » .
وهذا الأمر يقتضي بدء من المعلم أن يتعامل معه بدقة في الشرح والتحليل، وأن يكون على بصيرة بأساليب العرب ولغتهم في فهم الخطاب القرآني، حتى يعمل بذلك على تحقيق الأهداف المنشودة.
2. القرآن معجز بلفظه ومعناه للخلق عربا وعجما، وكله متعبد بتلاوته إلا ما نسخ منه فلا يدخل هنا، يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء. 88].فهذه الخصيصة تفرض علينا أن ندرس القرآن بالطريقة الإلقائية في نقل النص القرآني كما هو دون تغيير أو زيادة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نستشف من خلاله أن الإنسان مهما بلغ في استكناه مضامين هذا النص؛ فإن ذلك يبقى في حدود القدرة البشرية، وكل يأخذ منه على قدر فهمه وقدرته على فهم درره ومعرفة أحكامه.
3. القطعية والظنية فيه، القرآن كله قطعي الثبوت من حيث الورود، وهو المقصود، أما من حيث دلالته على الأحكام ففيه النوعان معا القطعي والظني، يقول ابن حزم: «ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا، والذي ألزمنا الإقرار به، والعمل بما فيه، وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه، أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها، وجب الانقياد لما فيه، فكان هو الأصل المرجوع إليه؛ لأننا وجدنا فيه: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام، 38] » .
فالقطعي والظني يستفاد منهما على مستوى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وعلى معجزة القرآن في الإجابة على أسئلة الزمان. وفيهما إشارة إلى إتاحة الاجتهاد للمجتهدين باعتبارهم ناقلين عن الله ورسوله الوحي المعظم، وإن لم يقم بهذه المهمة هؤلاء الرجال سيضيع العلم وسيكثر الجهل، وما خاصية القطع والظن، إلا إشارة لأمور نص عليها الشرع حكما قطعيا، وأمور أخرى تركت مفتوحة لمواكبة الجدة والاجتهاد.
فالدليل القرآني في تدريسه يجب التركيز على هذه الخصيصة من باب تعريف المتعلم بمنافذ الأحكام في نص الكتاب بناء على أن فيها ما هو قطعي حسم أمره، وفيها ما هو ظني يجتهد فيه؛ حتى يكون على دراية بذلك في التطبيق والتنزيل.
4. القرآن هداية، ونور، وشفاء وروح؛ يقول الحق سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنا﴾ [الشورى:52] ويقول جل في علاه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء 174] إذ حين نبرز مثل هذه الأوصاف في القرآن أثناء تعليمه على أنه مصدر أول موحى به، نظهر مدى جماليته، ونظهر كذلك مدى أهميته من أجل عودة الإنسانية كلها إليه.
وحين نذكر مثل هذه الأوصاف للمتعلم؛ فإنها تحدث في نفسه شوقا إلى التقرب من كتاب ربه أكثر، وتحدث تلك الأوصاف طمعا في قلبه إلى مدارسة هذا الكتاب الذي يستطيع من خلال قراءته أن يفتح الله في قلبه نورا للعلم والمعرفة، ويجعله على نور وهداية وبصيرة في طلب الحق والاستظلال به.
5. كله عربي اللسان؛ يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:195] وهنا تظهر أهمية تعلم العربية من أجل فهم معانيه فهما صحيحا، والعمل بذلك على الاطلاع على ما كتبه اللغويون في الباب من خلال أشهر الكتب في ذلك؛ كالعين للخليل بن أحمد الفراهيدي، ومقاييس اللغة لابن فارس، ولسان العرب لابن منظور،… وكذلك أن يطلع على بعض من الشعر العربي كالمعلقات وغيرها… هذا مع الرجوع إلى ما كتبه الأصوليون في هذا المجال في باب الدلالات وقد أبدعوا في ذلك فالعودة إلى هذا الأمر ضرورة ملحة في هذا الزمان لفهم خطاب النص القرآني.
6. أنه خاتم الكتب، وكله إلى الناس كافة؛ يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] وغيرها من الآيات وهي كثيرة. يقول الشاطبي: «إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة…» .
وبهذه السمات يتبين أن هذا القرآن هو المنقذ للإنسانية من الشر التي تسبح فيه اليوم، إذ هو المرجع في كل شيء وعليه المعول. فمنه تستخرج الأحكام، وإليه العودة في الإجابة على المستجدات المعاصرة.
وترتبط هذه الخصيصة بما نحن فيه من جهة أن المتعلم يعي من خلالها أهمية الكتاب في التنزيل والاستدلال، وذلك انطلاقا من شموليته واستمراريته عبر الزمان والمكان، وصلاحيته للإجابة على كل إشكال في حياة الناس؛ لأنه حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، من استظل بظله نجا ومن غاب عنه هلك.
7. لابد فيه من النظر، والتدبر، والتأمل، والتفكر…. ومن ثم الاستنباط والتنزيل، وهذا ما يتحدث عنه الشاطبي حين يقول: « لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي؛ نظرا وعملا» . وهو في هذا السياق يتحدث عن القرآن الذي هو منهج حياة ودستورها؛ إذ لا يجب الإغفال عنه قراءة وتدبرا وعملا.
ولقد ذكر القرآن الكريم الكثير من العمليات العقلية كالتفكر، والتدبر، والنظر… إذ القرآن الكريم يحمل الكثير من الإشراقات الإلهية في الكون، فإذا ما استعمل الإنسان فيه عقله وتدبره وفهمه ونظر فيما يحيط به من الكون وعظمة الخالق فيه، وصل بعد ذلك إلى اليقين المطلق بأن الخالق هو الله الرازق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *