الرحمة كلمة نورانية، حروفها جد رقيقة، لكنها تحمل بين حناياها ما يعجز الفكر عن الإلمام به، وما تعجز الكلمات عن التعبير عنه، غير أن ظلالها تنقش في النفس معان رائعة، وأروعها استنقاذ المخلوقات من الهلكة، إذ توجب على البشرية طعاما للجائع، ولباسا للعاري، وحصانة للضعيف، ووقارا للكبير، وشفقة على الصغير، وصونا لماء الوجه، ورحمة بالمخالف، بل ورفقا بالمخلوقات كلها.
فهي رحم يتخلق فيها المجتمع، حتى يصبح تام الخلقة مكتمل البنيان، لهذا فالرحمة دعامة قوية في بناء الفرد والمجتمع، إذ تربي الفرد على أعلى مستوى من الأخلاق، وتربي المجتمع على رابطة التراحم والحنو والرأفة، فالفرد من رحم المجتمع في قرار مكين، فله حق البنوة ومقتضياتها، وللمجتمع على الفرد بر الأبوة، وما تتطلبه من خفض الجناح والإحسان، تلك هي الرحمة كما أرداها الله تبارك وتعالى من عباده.
ماهية الرحمة
الرحمة كما يذكر الكفوي رحمه الله في الكليات 2/376: “حالة وجدانية تعرض غالبا لمن به رقة القلب وتكون مبدأ الانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان”.
والرحمة دليل على سعة الصدر، ورقة القلب، ومحبة الخير للناس، وسمو النفس، فالعبد الذي تسمو نفسه إلى معالي الأخلاق يعرف الحق ويرحم الخلق.
يقول الفيروز آبادي رحمه الله: “الرحمة سبب واصل بين الله وعباده، بها أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم” بصائر ذوي التمييز 3/55.
وقال السعدي رحمه الله: “إن الشريعة كلها مبنية على الرحمة في أصولها، وفي فروعها، وفي الأمر بأداء الحقوق، سواء كانت لله أو للخلق.. لقد وسعت هذه الشريعة برحمتها وعدلها العدو والصديق، لجأ إلى حصنها الحصين الموفقون من الخلق” الرياض الناضرة61.
أهل الحق أرحم الناس بالخلق
لما كانت الرحمة بهذا المقام وبهذه المنزلة اتصف بها أهل السنة والحديث، وتميزوا بها، بل هم الأحق بذلك بلا ريب ولا شك.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق” الرد على البكري 256.
واتصاف أهل السنة بذلك كان استنادا إلى جملة من الأحاديث، كما تلقوا ذلك عن نبيهم عليه الصلاة والسلام الذي قال الله تعالى في حقه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وأخذوا ذلك كذلك عن سلفهم الصالح.
يقول عليه الصلاة والسلام: “الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” الصحيحة.
وقال عليه الصلاة والسلام: “من لا يرحم لا يرحم ” متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: “لا تنزع الرحمة إلا من شقي” صحيح الجامع.
وها هو صاحب الخلق العظيم عليه الصلاة والسلام، فقد كان عليه الصلاة والسلام أعظم الناس رحمة ورأفة.
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
وفي الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته وشجَّ وجهه يوم أحد، شق ذلك على أصحابه شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم, فقال: “إني لم أبعث لعانا، ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون”.
يقول القاضي عياض رحمه الله عند هذا الحديث: “انظر في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر عليه الصلاة والسلام على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم، فقال: اغفر أو اهدي، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: ..قومي.. ” الشفا.
صور من رحمة السلف الكرام والأئمة الأعلام
ولقد سار على هذا الخلق الرفيع سلفنا الصالح الكرام والأئمة الأعلام، فهذا أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما رأى سبعون رأسا من الخوارج وقد جزت تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق، قال: “سبحان الله ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثم بكى قائلا: بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام” الاعتصام للشاطبي رحمه الله 1\ 71.
وكان أويس القرني رحمه الله إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والشراب، ثم يقول: اللهم من مات جوعا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به” صفة الصفوة 3\54.
وهذا الإمام أحمد رحمه الله يثبت على كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، ويقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصبر على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة آنذاك ومن تبعهم من الخلفاء، ومع ذلك البطش الذي لقيه إلا أننا نجده يقول: ” كل من ذكرني ففي حلّ إلا مبتدعا، وقد جعلت أبا إسحاق – يعني المعتصم- في حل.
رأيت الله يقول: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر رضي الله عنه بالعفو في قصة مسطح، ثم قال: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك” مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي رحمه الله.
وفي رواية قال أبو علي الحسين بن عبد الله الخرقي: بت مع أحمد بن حنبل ليلة، فلم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح، فقلت: أبا عبد الله كثر بكاؤك الليلة، فما السبب؟ فقال لي: ذكرت ضرب المعتصم إياي ومر بي في الدرس {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فسجدت، وأحللت من ضربني في السجو”.
وقال إبراهيم الحربي: “أحل أحمد بن حنبل من حضر ضربه وكل من شايع فيه والمعتصم، وقال: إلا ابن أبي دؤاد، داعية لا حللته”.
وهاهو الإمام ابن تيمية رحمه الله يقول عنه تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله كما في المدارج 2\345: “جئته يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسرُّوا به ودَعوا له”.
ولما مرض رحمه الله -مرض الوفاة- دخل عليه أحدهم فاعتذر له، والتمس منه أن يحلله فأجاب الشيخ كما في الأعلام العلية 82: “إني أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وإني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، كونه فعل ذلك مقلدا غيره”.
وفي البداية والنهاية 14\54 قال أحد خصومه -وهو ابن مخلوف-: “ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا”.
إن أخلاقا عالية كهذه لجديرة بأن تفتح أكمام العقول فتنساب فيضا نورانيا يضيء الأرواح ويحيي القلوب، وكلما تقادم بها الزمن لم تزدد مع الأيام إلا تألقا ورفعة، وكلما أبحرت فيها الأفهام، انسابت في الأقلام لآلئ وضاءة، فكانت تاريخا ثريا للمؤرخ الصدوق، وزادا تربويا لكل فقيه ورع، وخلقا ساميا لكل مسلم صادق أمين.