الناظر والمتأمل في منهج أئمة السنة في خصوص إسقاط حكم الكفر على المعينين ممن ثبت إسلامهم مع وقوعهم فيما هو كفر شرعا يجد أنه قائم على التضييق، لأن فتحه بلا ضوابط ولا قيود يخالف أصل براءة الذمة، إضافة إلى ما يترتب على ذلك من المفاسد الوخيمة.
ووجه هذا التضييق في هذا المجال: أن المعين قد تعرض له جملة من العوارض تمنع من إلحاق الكفر به وإسقاطه عليه، فلا يؤاخذ على أقواله ولا أفعاله وهذه العوارض هي المسماة عند أهل العلم بـ”عوارض الأهلية”. انظر التقرير والتحبير 2/230، وتيسير التحرير 2/258، وشرح التلويح على التوضيح 2/348.
والعوارض: “جمع عارض: أيُّ أمر عارِض، أو جمع عارِضَة: أيُّ خصلة عارضة أو آفة عارضة، مأخوذ من عرَض كذا، ومعنى أنها عوارض، أنها ليست من الصفات الذاتية، كما يقال: البياض من عوارض الثلج، والسواد من عوارض الفحم”.
وقد عرفها علماء الأصول: “بأنها الحالات التي تكون منافية للأهلية،وليست من لوازم الإنسان من حيث هو إنسان”.
أما الأهلية: ففي اللغة: “معناها الصلاحية للشيء”.
وعرفت اصطلاحا بأنها: “صلاحية الإنسان لما يجب له من الحقوق وما يلزمه من الواجبات بعد توفر الشروط اللازمة لصحة ثبوت الحقوق له والواجبات”.
راجع رسالة عوارض الأهلية لحسين الجبوري 126، وانظر عارض الجهل وأثره على أحكام الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة 23-24.
ومن ثم فعوارض الأهلية هي: “أوصاف غير لازمة بالمكلف، تطرأ له بعد كمال أهليته فتزيلها أو تنقصها أو تغير بعض الأحكام المتعلقة بها” انظر الإحكام للآمدي 1/152، والمستصفى 1/148 والتوضيح على التلقيح 3/161، وكشف الأسرار للبزدوي 4/435.
وهذه العوارض تنقسم إلى قسمين:
أـ عوارض سماوية: وهي ما لا دخل للإنسان في وجودها، أو وقوعها مثل: الصغر، الجنون، النسيان، النوم،…
ب ـ عوارض مكتسبة: وهي ما يكون للإنسان دخل في وجودها ووقوعها كالخطأ والسكر والهزل.. انظر أصول البزدوي 1/329، والتعريفات للجرجاني 1/205.
وللتحقق من سلامة الشخص من هذه العوارض ومن ثم إجراء الحكم عليه وإسقاطه: يجب التأكد من تحقيق مناطه (أي: الحكم) في حق عينه (أي: الشخص).
ذلك لأن إنزال الحكم على مناط معين قائم على قواعد وضوابط كما أصله علماء الأصول، ومن ذلك قولهم: أن لكل حكم شرعي مقدمتان: نقلية وعقلية:
فالنقلية: تعرف من خلال النصوص الشرعية.
أما العقلية: فيعنون بها في هذا الباب: تحقيق مناط الحكم وتنزيله على ما يناسبه من وقائع، وهو ما يسمى في أصول الفقه بـ”تحقيق المناط”(1)، وهو “أن يكون هناك قاعدة شرعية متفق عليها أو منصوص عليها وهي الأصل، فيتبين المجتهد وجودها في الفرع” شرح مختصر الروضة للطوفي 3/233.
وعليه فتحقق مناط حكم ما على شيء ما لا يتمُّ إلا بعد توفر الشروط وزال الموانع.
قال الناظم:
والشيء لا يتم إلا أن تتم *** شروطه ومناع منه عدم
منظومة القواعد الفقهية لابن عثيمين رحمه الله 41 مع شرحها له.
وحاصل كلام الناظم: أن أي حكم فإنه لا يتم إلا باستكمال شروطه وانتفاء موانعه. انظر نثر الورود على مراقي السعود 1/57.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه، بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه” مفتاح دار السعادة 1/306.
والشرط في الاصطلاح هو: “ما يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته”.
أما المانع فهو: “الذي يلزم من وجوده عدم الحكم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته” انظر نثر الورود 1/57-58.
ومن الأدلة على صحة ما ذُكِر واقعة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في الصحيحين، حين كتب لكفار قريش عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم ولما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل للحكم عليه، بل بادره بقوله: “يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟”(2).
مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي عند إسقاط الأحكام على الأعيان الظروف والملابسات وحالة المخطئ، وكان يعتبر تحقق الشروط وزوال الموانع.
وقد ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث في صحيحه في كتاب: “استتابة المرتدين..” تحت باب: “ما جاء في المتأولين” وبهذا التبويب النفيس يكشف لنا الإمام البخاري رحمه الله عن المانع من إسقاط حكم ذلك الجرم على حاطب رضي الله عنه ألا وهو مانع التأويل.
ومن هذه الأحكام التي لا بد عند إسقاطها على الأعيان من توفر الشروط وزال الموانع حكم الكفر، وهو أمر مجمع عليه كما حكاه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي 12/489.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “والتكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق معين، وتكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع” الفتاوي 12/487.
وقال كذلك رحمه الله: “لا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع” منهاج السنة 5/240.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “اتفقوا على تحقيق المناط وهو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي، فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان” الفتاوي 19/16.
2: قال الإمام الشافعي رحمه الله عن قصة حاطب رضي الله عنه: “في هذا الحديث.. طرح الحكم باعتبار الظنون” الأم 356.