تهافت دعوى حرية الاعتقاد إبراهيم الحقيل

زعم بعضهم أن النصوص المنتقدة تقليد المشركين لآبائهم تنص صراحة على أن الأنبياء -وأتباعهم بطريق الأولى- لم يرسلوا لكي يلزموا الناس بتعاليم دينهم، أو يكرهوهم على شيء لا يعتقدون صحته.1
وتجاوز بعضهم إلى ادعاء أن القتال هو لمن أحدث الفتنة، وفرض القهر والتسلط الديني مستدلين بقول الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله) البقرة، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).2
بمعنى أن هذه الآية ومثيلاتها إنما هي في قتال من فرض التسلط الديني أيَّاً كان دينه، ومن لوازم تقرير ذلك: أن الاحتساب على الناس المأمور به في القرآن والسنة وكذلك الجهاد هو من التسلط الديني الذي يجب قتال أصحابه استدلالاً بهذه الآية. ويساوون بين الإسلام وغيره كما هو مقتضى القوانين الوضعية، والمواثيق الدولية، وإعلانات حقوق الإنسان، بل منهم من يجعل أديان اليهود والنصارى كالإسلام فيسمونها أدياناً توحيدية تمييزاً لها عن الوثنية.
وفي أثناء حشدهم للنصوص التي يستدلون بها على حرية الاعتقاد -في عملية انتقائية من القرآن والسنة- أهملوا ذكر حقائق مهمة في هذا الجانب، ومنها:
أولاً: النصوص التي فيها نقد الكفار، واتهامهم في عقولهم، وتسفيه آلهتهم، والإخبار عنهم بأنهم أضل من الأنعام، وأنهم شر البرية، وأنهم لا يعقلون.
ثانياً: تغافلوا عما جرى من إنكار الأنبياء عليهم السلام لممارسات أقوامهم، وأبلغ ذلك وأوضحه تكسير الخليل عليه السلام أصنام قومه مما يعد اعتداء صارخاً على حرية الاعتقاد بمفهومها الغربي، ومثله إحراق موسى عليه السلام العجل الذي عبدوه.
ثالثاً: أهملوا ذكر هلاك المكذبين السابقين بسبب بقائهم على الكفر، وتهديد المكذبين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام بالعذاب.
رابعا: أنهم في إثباتهم لحرية الاعتقاد في الإسلام ألغوا أحكاماً شرعية ثابتة؛ وذلك لتوسيع هذه الحرية التي أدخلوها في الإسلام قسرا، والاقتراب بها من مثيلتها في الفكر الغربي، وإذا ما وقع شيء من التعارض بينهما سلكوا سبل الاعتذار والتحريف، والانتقاء من المذاهب والأقوال ما يكون أقرب إلى الفكرة الغربية ولو كان رأياً شاذاً أو محدثا مخالفاً للإجماع، كما فعلوا في نفي حد الردة الثابت بالنص والإجماع، وكما فعلوا في حصر الجهاد في الدفع دون الطلب مع ثبوته بالنص والإجماع أيضاً.
خامسا: أنهم تحرجوا من أحكام شرعية ثابتة، فأوجدوا لها أعذاراً باهتة، ومخارج ضيقة، مثل: الجزية، وكذلك مشروعية الرق في الإسلام، وكونه ذلاً سببه الكفر، فاعتذروا عنه بأنه كان موجوداً عند الأمم كلها وليس عند المسلمين فقط؛ ولذلك أقره الإسلام، وكأن الإسلام يقر الباطل إذا كان سائداً! وهو ما أنزل إلا ليهدم الباطل، وإلَّا فإن الشرك كان سائداً فلماذا أبطله الإسلام، وأبطل كثيراً من اعتقادات المشركين وشعائرهم وعاداتهم؟!
وأخيرا: فإن مبنى الحرية بكاملها -ومنها حرية الاعتقاد- على أصل فاسد وهو أن الأصل في البشر السلم، وأن الأصل في الإنسان أنه مسالم لا يحب العدوان، وهي فرضية غير صحيحة. بل الأصل في البشر الحرب وليس السلم، والأصل في الإنسان العدوان وليس العدل؛ كما قال الله تعالى [وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] {الأحزاب:72} «فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول»3.
والظلم والجهل يحملان الإنسان على الاعتداء وسفك الدماء. والملائكة كانوا يعرفون حقيقة البشر قبل أن يخلقوا بما علمهم الله تعالى، أو بتجربة خلق لله تعالى سابقين على البشر سكنوا الأرض فأفسدوا فيها، أو بالنظر إلى طبيعة خلق آدم عليه السلام، وأنه خلق أجوف فهو يشتهي، والشهوة ستكون سببا للأثرة والصراع؛ ولذا قال الملائكة: [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] البقرة:30.
وإذا كان الأصل في الإنسان الجهل والظلم، كان لا بد من ضبطه بالشرائع أو بالقوانين لكلا يعبث في الأرض بجهله وظلمه؛ فأهل الإيمان ارتضوا أن يُضبط الإنسان بشريعة الله تعالى، والعلمانيون ومن وافقهم ارتضوا أن يُضبط بما تنتجه الأهواء البشرية من قوانين.
وإذا كان السلم ليس أصلا في البشر، وهو خرافة ابتدعها الغرب ليستسلم لهم المسلمون كان لا بد من توجيه الصراع -الذي هو سمة البشر- بحيث تكون وجهته إعلاء كلمة الله تعالى، ليكون الدين كله له سبحانه وتعالى [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ] {البقرة:251} وهذا الدفع سيبقى إلى آخر الزمان فلم يكن ثمة حرية اعتقاد البتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحرية الدينية ومقاصدها في الإسلام: 36.
2- حقوق الإنسان في القرآن الكريم، فاروق السامرائي: 89. والإسلام وحقوق الإنسان محمد حمد خضر: 27-28، وحقوق الإنسان في الإسلام علي عبد الواحد وافي: 220.
3- منهاج السنة لابن تيمية 8/287.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *