إ ضاءات (4) ربيع السملالي

*طالعتُ كتاب (أنت تفكّر إذًا أنتَ كافر ..وزيادة) لكاتبة مجهولة تُدعى سلوى اللوباني، فوجدته مليئًا بالتّناقضاتِ العلمية والفكرية والأدبية، أرادت من خلاله أن تُطبّبَ زكامًا فأحدثتْ جُذامًا، جمعت فيه رؤوس الإلحاد والعلمانية الكارهين لدين الله، دافعت عن أفكارهم المسمومة بشراسة وسذاجة، والمصيبة أنّها حشرت مع هذا الجمع غير المبارك سيد قطب (رحمه الله) الذي مات من أجل إعلاء كلمة الله ..وأعتقدها فعلت ذلك لتغطّي عن بشاعة ما في هذا الكتاب من انحياز لطائفة من أهل الحداثة والعلمنة (والمتحيّزُ لا يُميّز كما يُقال)، ولكي تضخّم من حجم هذا الكتاب الذي طبعته دار مدارك (التي لا تردّ يد لامس) بأوراق مصقولة، وطبعة أنيقة، وغلاف يخدعُ أعينَ النّاس.
ولو كانت هذه المرأة على علم بكتاب الله وسنّة المصطفى وسيرته الزّكية صلى الله عليه وسلّم لما سطّرت كل هذا الهُراء ليكون عليها شهيدًا يوم القيامة، وهل يوجد ما هو أسوأ من التّسويغ للنّطق بكلمة الكفر والعمل بمقتضاها، بدعوى حرية التّعبير وحرّية الرّأي…
فإذا كان سابّ رئيس دولة من الدّول العربية يدان ويحاكم ويسجن ويعذّب، فلماذا لا تدافع عنه وتطالب بحريته وحرية قلمه، كما فعلت مع من يسب الله ورسوله ويحرّض على خلع ربقة الإسلام من عنقه ..كالملحد عبد الله القصيمي، وفرج فودة، وناصر حامد أبو زيد، وصادق جلال العظم، وغيرهم كثير لا تتسع هذه الورقات لذِكرهم كما اتسّعت لهم أوراقها في كتابها هذا الرّديء.
وهذا النّوع من الكتابات شرعتْ تشقُّ طريقَها نحو الهاوية، فإذا أراد كلّ نكرة مجهول لا عنوان له ولا دين أن يشتهر فما عليه إلاّ أن يطعن في الدّين وأهله، أو يدافع عن رموز لا همّ لهم إلا دين الإسلام وتنحيته من حياة النّاس الاجتماعية بدعوى أنّه يحول بينهم وبين التّقدّم والحضارة كما وقع للنّصارى حين كانت تحكمهم الكنيسة ..
*****
* انتهيت من قراءة كتاب (ليليات) للأستاذ المغربي المبدع د. عبد الإله بلقزيز، قرأته في ساعات معدودة، وليس من عادتي ذلك، لكنني وجدت فيه ما تسعى إليه نفسي وما تنشده روحي المتعبة، وما يطلبه جسدي المنهك بفعل الزكام الحادّ …وجدت فيه عربية فصيحة قوية وأسلوبًا شاعريا ومعانيَ غير مسبوقة جعلتني أردّد كلمة (الله الله) التي هي للاستحسان في كثير من الصّفحات
..قدّم له صديقه الموسيقي المشهور مارسيل خليفة بمقدّمة طويلة عابقة بالذّكريات وبالكلم الطيب ..ولم أكن أعرف قبل قراءتي لمقدّمته أنّ صاحب أغنية (أحنّ إلى خبز أُمِّي) أديب أريب يحسن نظم الكلام وإطالة النَّفْس فيه، والتحليق في سماء القصيدة والبحث عن رَوِيّها المفقود بين أشتات الماضي والمستقبل والحاضر ..وبما أن القراءة تدعو إلى القراءة فقد دعتني قراءتي لهذا الكتاب أن أجمع كل مؤلفات بلقزيز الأدبية وهي أكثر من عشرين عنوانا ليس لي منها إلا ثلاثة عناوين..
*****
* حاورتُ ملحدةً تابت وعادت إلى رشدها، فقالت لي: إنّ من الشّبهات التي كان الملحدون يردّدونها في مجالسهم أنّ الله لو كان موجودًا لما سمح للكفّار بقتل وتعذيب الأطفال الأبرياء في سوريا والعراق وفلسطين وغيرها من بلدان المسلمين ..فتذكرت حينها تقسيم ابن الجوزي للتّكاليف إلى سهل وصعب، فالسهل: هو أعمال الجوارح، والصعب ذكر منه أنواعًا، منها: أنك تراه يؤلم الأطفال حتى يرحمهم كلّ طبع، ثم يقال لك: إيّاك أن تشكّ في أنّه أرحم الرّاحمين ..وفي مثل هذه الأشياء تحيّر خلق، حتى خرجوا إلى الكفر والتكذيب.
ولو فتَّشوا على سرّ هذه الأشياء لعلموا أنّ تسليم هذه الأمور تكليف العقل ليُذعن، وهذا أصل، وإذا فُهم حصل منه السلامة والتسليم.
نسأل الله عز وجلّ أن يكشف لنا الغوامض، التي حيَّرت من ضلّ، إنه قريب مجيب.
*****
* أمام كلّ هذه المآسي التي تغرق فيها أمّتنا المكلومة يصبح الكلام -المنظور والمنثور- ضربًا من التّفاهة، ونوعًا من الثّرثرة التي لا تجدي شيئًا أمام أزيز الطّائرات، والصّواريخ، فحتّى لو كتبنا آلاف الكتب، ونظمنا ملايين القصائد فلن نزيد شيئا أكثر من البكاء على الأطلال البالية التي تركها أهلها ورحلوا غدرا بعدما بصقوا علينا وعلى العالم الظّالم أهله..
وقد جاء في خبر قبل قليل أنّ الغارات الأمريكية ليوم واحد كافية للقضاء على بشار الأسد ونظامه ..هذا الخبر لامس أعماقي وشعرت بالضّياع، وقلت كم نحن مساكين في هذه الأرض، لا نملك إلا الكلام والألسنة الطويلة التي تفري في أعراض الأحياء والأموات من وراء شاشات صمّاء أباحت للدّجاجة أن تصيح صياح الدّيك …والله المستعان.
*****
* حين يسألني أحد أصدقائي عن كتاب قائلاً: هل قرأته؟
أشعر أولا وقبل كلّ شيء بهذه النّعمة العظيمة التي منّ الله بها علينا، ألا وهي (القراءة)! وأتذكر أولئك الذين ليسوا قارئين ولا قادرين على فكّ رموز الأبجدية.. وأضع نفسي مكانهم أمام لغات أخرى لا أعرف عنها إلا ما يعرفه ابني أسامة عن كتاب (أباطيل وأسمار) ..فيزداد يقيني أنّ هذه النّعمة من أكبر النّعم، وأنّ الشّكر لله واجب قيامًا وقعودًا وعلى جنب.
*****
* أعود إلى بعض الرّسائل عندي في هذا الحساب (الفيسبوكي)، فأجد فيها مادّة دسمة للكتابة، فمثلا كثير من الشّباب يبدأ حديثه معي بأدب جم وأخلاق عالية وخجل يكاد يحول بينه وبين الكتابة السّليمة، حتّى إذا أجبته واسترسلت معه في الكلام تطييبًا لخاطره ينزع القناع الذي لبسه أوَّل مرة في أول رسالة ليخاطبني مخاطبة النّد للندّ، فينزع الألقاب عنّي ويخاطبني بصيغة المفرد بعدما كان يخاطبني بصيغة الجمع، أو يرسل رسالة خالية من السّلام ليسأل بوقاحة عن أكتوبة لي لم يستوعبها عقله المحدود..
وفِي الغالب تبدأ الرسائل بكلمة أحبك في الله ..وتنتهي بكلمة (تواضع هل تعتقد نفسك الجاحظ) أو ما شابه ذلك ..ومرّة راسلني ناشر يتوسّل إليّ لأطبع عنده كتابًا بعدما رأى إقبال النَّاس على ما أكتبه، وعرض عليّ إغراءات كثيرة لأقبل وحين وافقت وطبعت عنده كتابا …أصبح لا يردّ على رسائلي التي أسأله فيها عن حقوقي، وسافرت إليه مرّة فكدتُ أموت من الجوع في قريته الظّالمة.
*****
* ولقد رأيتُ يا سادتي كثيرًا من الشباب والصّبايا يحبّون الكتب حبًّا جَمّا، وينفقون في سبيلها الغالي والنّفيس، ويلتقطون الصور المائزة وهم على شاطئ البحر، أو على ضفاف بحيرة هادئة، أو في بيت تغشاه السكينة ورائحة القهوة ودفء الوالدين …ويكتبون الخواطر والتغريدات في هذا العشق الجميل الذي استحوذ على قلوبهم وعقولهم، ولكنهم للأسف يلحنون لحنًا فاحشًا، ولا يقيمون وزنًا للفاعل إذا نُصبَ، والمفعول إذا رُفِع، وللهمزة إذا استقرّت في غير موضعها…فما أجملهم لو أتوا البيوت من أبوابها وشرعوا يردّدون مع ابن مالك قبل كلّ شيء:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم …واسم وفعل ثم حرف الْكَلِم
******
*عندي في مكتبتي، سيرة حمار، ومذكرات دجاجة، وحماري قال لي، ومزرعة الحيوان، والحيوان للجاحظ، وحياة الحيوان للدميري، وتفضيل الكلاب على كثير ممن لبسوا الثياب، وفِي وحي القلم للرافعي حديث بين قطين، وحديث بين خروفين، واشتريت من معرض تونس: (محاكمة كلب) لكاتب تونسي، فأخشى أن تتحول مكتبتي إلى حديقة حيوانات! ..وقبل ساعات كتبت عن الخرفان فانزعجت مني الذئاب وبنات آوى ولله الأمر من قبل ومن بعد..
*****
* لا تهمني الشهرة ولا الأضواء ولا شيء من هذا القبيل، بقدر ما يهمني أن تجد كتاباتي طريقها إلى قلوب قراء في مشارق الأرض ومغاربها.. دعوة صادقة من محب لا أعرفه ويعرف عني كلّ شيء..
امرأة تلتقيني في معرض تونس فتخرج من حقيبتها دفترًا ضخما وقد لخصت فيه أغلب كتبي، وتقول إنّها قد تغيّرت تماما مذ شرعت تقرأ ما أكتبه …وأخرى تفكر في تسجيل كتابي (يا بني) بصوتها لتستطيع صديقتها الضريرةً الاستفادة منه ..شيخ جليل معروف بالعلم والأدب يثني على أفكاري المتواضعة ويستحسن لغتي في رسالة تقطر أدبا وتواضعًا ..طفل صغير ترسله أمه ليلتقط معي صورة بابتسامة بريئة حطّها الحبّ من عَلٍ ..مقالات مطولة عن كتبي تكتبها أقلام تنشد الحق والخير والجمال جمعني بها الفكر والأدب والفضاء الأزرق أنفقوا في سبيل تدبيجها نصف ليلهم وشطرا من نهارهم ..شابّ عشريني يبوح لي بحبه معترفًا أنني كنت سببا في رجوعه إلى الكتاب ..ويقول مازحًا: أرجو ألا تنكسر روحك بيننا مجدّدًا أو يهيمن عليك المللُ.
https://web.facebook.com/rabia.essamlali

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *