بين الدولة الدينية والدولة المدنية.. أين موقع دولة الإسلام؟ ذ.الحسن العسال

إن مصطلحي الدولة الدينية والدولة المدنية مصطلحان دخيلان على تراثنا وثقافتنا، ولسنا ملزمين بالأخذ بهما، لأن الدولة عندنا إسلامية، مما يجعلنا نضرب بالمصطلحين آنفي الذكر ذاك الكوكب.

غير أن بني علمان لو كانوا موضوعيين وعقلانين!! -كما يزعمون- لما أخرجوا المفاهيم من سياقها التاريخي والفكري والثقافي، مادام الحكم الديني يطلق على الحكم الذي يستمد مشروعيته من الله، بحيث يكون الحاكم ناطقا باسم الله مباشرة دون واسطة، زعموا، مما يمنحه الحق الإلهي، في مقابل الحق المدني الذي يتمتع به جميع المواطنين في الدولة المدنية، والتي يلغى تحت لوائها أي دور للدين في النظام السياسي والحكم، وهذه هي العلمانية[1].
لذا ينبغي لمن يدعي العقلانية والموضوعية ألا يسقط مفاهيم دخيلة على ثقافتنا بانتزاعها من بيئتها، كمن يغرس الطماطم في البحر.
يقولون: إن الدولة الدينية ولاؤها للدين، والدولة المدنية ولاؤها للوطن، ونحن نقول: إن الدولة الإسلامية ولاؤها للإسلام، والوطن من الإسلام. أما ادعاؤهم الولاء للوطن، فيسقط بالضربة القاضية عندما يقدسون الكونية، ويجعلون قوانينها تسمو على قوانين الوطن.
ولإزالة الغبش من أذهان من يروم الحق ممن تلبس بلوثة العلمانية، نقول إن مرجعية الدولة في الإسلام هي الكتاب والسنة، ليكون الحاكم فيها شخص لا يتميز عن باقي أفراد الشعب، بخصائص إلهية ذاتية، وإنما يتميز بتطبيقه لشرع الله، وإن أخطأ أو انحرف، قومه غيره بالكتاب والسنة، ليكون هذا الغير، حينئذ هو المتميز على الحاكم باحتكامه إلى مرجعية الدولة التي لا يعلو فوقها شيء، وبعبارة أخرى، عوض أن يكون الحاكم فوق الجميع، كما هو الحال في الدولة الدينية، تكون الشريعة في دولة الإسلام فوق الحاكم والمحكوم.
فليستح بنو علمان من أن يفكروا بعقول أسيادهم، وليستردوا ذواتهم التي فقدوها في سوق نخاسة الكونية باسم صك الحداثة، وكفاهم سفسطة يضحكون بها على الناس، لأن قداسة الحاكم في الدولة الدينية النصرانية لا تلزمنا في الدولة الإسلامية، وإلغاء القداسة في الدولة المدنية لا يعني إلغاؤها عن الشريعة الإسلامية -كتابا وسنة- ولا يعني أيضا إلغاء الشريعة عن الدولة في الإسلام، وعن نظامها السياسي، بل ولا عن الحياة بجميع مستوياتها ومجالاتها.
فإن كان الأمر كذلك أي: إن كانت الدولة الدينية هي ما سلف ذكره، فالدولة في الإسلام إسلامية، وليست دينية بذلك المعنى.
ومن المفارقات العجيبة الغريبة التي لا يستحيي بنو علمان من ترويجها، هي اعتبار الدول العربية إسلامية النظام السياسي، ومن ثم إلصاق كل جريرة بالنظام الإسلامي الذي لم يطبق في أي دولة، وبقي عنوان الدولة الإسلامية حبيس الدساتير، دون أي تفعيل على أرض الواقع، بل حتى الأحوال الشخصية يعمل بنو علمان على جعلها مدنية حداثية!!
ومع ذلك فهم ملتزمون بمنطق: “رمتني بدائها وانسلت”، وكل وازرة تزر وزر أخرى، فكأنهم يعيشون في زحل، أو يحسبون المسلمين يعيشون فيه، فالثورات العربية التي قامت، على سبيل المثال، هل قامت ضد الاستبداد العلماني أم ضد الاستبداد الإسلامي؟
أو بعبارة أخرى: هل سيميائية الثورات إسلامية أم علمانية؟
وبنظرة سريعة على الثورات العربية، يلوح الجواب كالقمر ليلة البدر، عندما نرى أن الثورات انطلقت من المساجد، وزينتها صيحات التكبير، وكان زمانها الجمع والتراويح، وطبعت أسماء جمعها، نفحات إسلامية، من مثل جمعة: الله معنا، وجمعة: خالد بن الوليد. بل حتى من كانوا هدفا للثورات، حاولوا استغلال هذا النبض الإسلامي[2]، فهذا علي اليمن “يفتي” بعدم الاختلاط في ميادين الثورة، وذانك جمال وعلاء مبارك يحملان المصحف في قفص الاتهام، وسيف القذافي ظهر في ثياب الواعظين، وهو يحمل سبحة، ووجهه تعتليه لحية معفاة، مؤكدا لصحف أمريكية أن عائلته توصلت إلى تفاهم مع إسلاميين للتخلص من المعارضة العلمانية.
ماذا يعني كل هذا؟ هل يعني أن الشعوب العربية تموت هياما في العلمانية؟ أم أنه، على العكس من ذلك تماما، يدل على أنها تواقة لأن ترى الإسلام يهيمن على حياتها؟
ولنطرح سؤالا على بني علمان عسى أن يستعملوا ولو مرة واحدة عقولهم لا عقول أسيادهم، كي يستردوا ذواتهم التي هجرت أجسادهم: أليس من الاستبداد العلماني أن تكون الشعوب مسلمة وتحكم بالعلمانية؟
أليس من السخف أن تنعت هذه الشعوب، حين ترفض علمانيتهم بأنها لم تنضج بعد، وبأن عقليتها لازالت رجعية! مما يعني أن بني علمان يتناقضون حتى مع أنفسهم، ومع ما يدعون أنهم مقتنعون به.
وأكبر دليل على أنهم لا يلتزمون بما يؤمنون به، ولا ينسجمون مع أفكارهم، إلا إذا كانت الأغلبية في صفهم، هو محاولتهم الالتفاف على مطالب الشعوب بعد الثورات العربية، بعدما صُدِموا بحجمهم الحقيقي، الذي ضخمه إعلامهم قبل ذلك، في ظل الاستبداد العلماني، وساندهم فيه أسيادهم، فلما بوغثوا بالحقيقة، أرادوا فرض الوصاية على الشعوب، هذه الوصاية التي طالما مجوها.
وفي هذا الإطار دعا أدونيس العلماني المعارضة السورية إلى الابتعاد عن الفكر الديني، تمويها، لأنه يقصد الإسلامي ولأن فرائصه ارتعدت من النبض الإسلامي.
فبنو علمان يعملون جاهدين على فرض الدولة المدنية[3] اللادينية لتحنيط هذه الشعوب، كما حاولوا تحنيط الإسلاميين، إما بالاستقواء بالخارج، أو بالإرهاب الفكري، والتكفير السياسي. لأنه، في إطار الجدال، يزعم معتدلو بني علمان أن الإسلام لم يحدد نظاما معينا للحكم، بينما يعتبرون الدولة المدنية اللادينية هي أرقى النظم على الإطلاق التي لا يطالها العيب من بين يديها ولا من خلفها، بل هي النظام الشرعي الصالح لكل زمان ومكان، ولكل البشر، ومن خرج عنه فنعوت القدح والتنقص والتجريم جاهزة.
كما يعتبرون نظام الحكم المدني إنسانيا إلى النخاع، وحَلاَّل مشاكل بامتياز، إلا أن الواقع يكذب ذلك، فالناس لا يعطون الصدقة باسم الحداثة. وفي المقابل، لا نجد تعاطفا مع حملات محاربة السيدا، لأن الحلول حداثية وليست إسلامية.
وأخيرا أختم بهذه الهمسة، في آذان من يروم الحق:
إذا كان في دولة بني علمان: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. ففي دولة الإسلام: قيصر وما يملك لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- مع العلم أن هناك اختلافا في تعريف الدولة المدنية بين من يعتبر العلمانية من لوازمها، ومن يعتقد أنها ليست بالضرورة علمانية.
2- وليس الديني بإطلاق، لأنه ليس هناك دين يدعي أنه يهيمن على مناحي الحياة غير الإسلام.
3- الدولة المدنية تقابل عندهم الدولة القبلية والدولة العسكرية والدولة الدينية، إلا أنهم استغلوا الدين للوصول إلى السلطة مع عبد الناصر، واستغلوا العسكر مع حافظ الأسد، واستغلوا القبيلة مع علي اليمن، واستغلوا الطغيان المطلق مع ابن علي في تونس.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *