كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن الحقوق والحريات الفردية، وبرزت على الواجهة مجموعة من الجمعيات، برجال ونساء مكسوين بجلباب العلمانية المنحلة والعولمة المتوحشة، فكثر الكلام عن الفرد وغابت في خطاباتهم روح الجماعة، مقلدين في ذلك أساتذتهم الغربيين، والأدهى والأمر من ذلك هو دعوتهم إلى نشر الفساد والفواحش والمنكرات في قالب حقوقي إنساني، فإن كان ذلك بغفلة منهم أو غرر بهم فهو أمر خطير، وإن كان بوعي منهم فهو أخطر.
لكن لابد من سؤال: من الأولى في التحقيق، هل الحقوق الفردية أم الجماعية؟
إن الإنسان -والذي من طبعه الاجتماع والعيش في محيط تطبعه مجموعة من العلاقات البشرية وبأشكال مختلفة- سعى دوما ومذ أن وجد على الأرض إلى إيجاد أدبيات وأعراف تؤطر هذه العلاقات وتنظمها بشكل يضمن حقوق كل فرد، أي هذا الفرد الذي يكون بمجموعه جماعة تسعى بدورها إلى ضمان حقوقها، وهذه الحقوق الفردية أو الجماعية تنسحب نتائجها على جميع أفراد المجتمع، فإن كانت إيجابية سعى إلى الحفاظ عليها، وإن كانت سلبية عمل على تغييرها أو الحد منها بإقصاء بعضها، باعتبار أن الأثر الإيجابي المترتب على ضمان وتحقيق هذه الحقوق، هو الذي يجعلها حقوقا مطلوبة التوفير والتحقيق، وواجب الحفاظ عليها، فردية كانت أو جماعية.
وانطلاقا من أمر مسلم، وهو أن الإنسان اجتماعي بطبعه، نجد مجموعة من القيم الإنسانية التي لا يختلف فيها اثنان، مثل قيم التعاون وقيم التضامن ومجموعة من القيم الأخرى التي تؤطر اجتماعه وتحافظ على تماسكه، والملاحظ هو أن كل هذه القيم الهدف منها هو الحفاظ على الفرد وضمان حقوقه داخل الجماعة، وبالتالي لا يكون ضمان حق فرد على حساب ضياع حقوق الآخرين، وإنما تتحقق حقوق الفرد بالحفاظ على حقوق الجماعة، وهذا واضح من خلال الرجوع إلى التاريخ الإنساني، والقرآن الكريم يحدثنا عن ابني آدم لما طغت الأنا الفردية على الجماعية قتل أحدهما الآخر.
وهذا ما يقع الآن في هذا العصر، إذ كثرت أبواق المناداة بالحقوق الفردية وعلت منصات خطابات أصحاب هذا الفكر، وكل ذلك على حساب حقوق الجماعة، فداسوا على القيم الإنسانية وداسوا على الأخلاق والثوابت التي تؤطر مجتمعنا الإسلامي، فكانت النتيجة شبيهة بقتل أحد ابني آدم الآخر، فقتلوا القيم والأخلاق، ونشروا الفساد ولا يزالون، وآخر ما وصلت إليه حداثة هؤلاء العلمانيين -والتي تظهر ما يحاولون إخفاءه من تطرف ديني (بالتفريط والغلو في المخالفات الشرعية) وانحلال خلقي ودعوة إلى الفساد- ما اعتبروه حقوقا فردية هو دعوتهم إلى الحرية الجنسية، ولماذا لا يسمونها باسمها، ويقولون ممارسة الزنا؟
هم يعلمون أن دين المغاربة لا يسمح لهم باستمراء المنكر والرضا بالفاحشة، فسعوا إلى تضليل الناس كما ضلوا، فيمموا المصطلحات والأسماء، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فسموا الأشياء بغير مسمياتها، وتلك هي حال أهل الفسق والفجور يتلاعبون بالمصطلحات والأسماء، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة:103، و{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} البقرة:10-11.
وباعتبار ما سبق ذكره فإننا عندما نريد أن نرتب الحقوق الفردية والجماعية سنضع الحقوق الجماعية هي الأولى ثم الفردية بعد ذلك، لأنه بضمان الحقوق الجماعية، تضمن جانبا كبيرا من الحقوق الفردية إن لم أقل كلها، والعكس غير صحيح.
ولذلك نجد أن الشريعة الإسلامية حافظت على الحقوق الفردية ولكن في إطار الحقوق الجماعية، أي أن تحقيق الحقوق الفردية يجب أن لا يؤثر بالسلب على الجماعة أو تكون على حساب ضياع الحقوق الجماعية، فدعا الإسلام إلى التعاون والتكافل والتسامح والحوار، وحسن الجوار وإكرام الضيف وغير ذلك من الأخلاق وأصول التعايش، ونهى عن الغش وإيذاء الجار والبخل والشح والإسراف والتبذير وغيرها من السلوكات الذميمة والتصرفات المشينة التي يترتب عليها ضياع حقوق الفرد والجماعة، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} آل عمران:102-103.