انتفاضة الزنوج في العاصمة الموريتانية؛ ما دوافعها؟ د. محمد وراضي

في حدود شهر نوفمبر من عام 1984م، وصلت إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط، كعضو في البعثة الثقافية المغربية. وبعد وصولي بأقل من أسبوع، قاد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، انقلابا عسكريا ضد سلفه العسكري الأسبق: ولد السالك.
وكنت حين إعلان الانقلاب داخل مؤسسة طلابية حيث نقيم لبعض الوقت، دون أن أنبس ببنت شفة، والطلبة الجالسون إلى جواري يعلنون فرحتهم بالانقلاب الحاصل، بينما تدور في ذهني فكرة فحواها أن الانقلابيين، سوف يعيدوننا إلى بلادنا مع أول طائرة، لكن الحالة ظلت هادئة، فقد حصلنا في وزارة الإسكان على منازلنا مع كل متطلباتها، كما تم إسناد المأموريات إلينا.
وكان من حسن حظي أن تم تعييني بالعاصمة كمفتش للفكر الإسلامي والفلسفة، وكمستشار تربوي بالمعهد التربوي الوطني (قسم التربية الإسلامية)؛ ثم أصبحت في السنة الموالية أستاذا للفكر الإسلامي بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية، وأستاذا للفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة.
فكان أن فتحت أمامي أبواب الاطلاع العريض على واقع المجتمع الموريتاني من نواحي عدة. من ناحية سياسية، ومن ناحية اقتصادية، ومن ناحية اجتماعية وعرقية بالذات. فالموريتانيون يتألفون من البيض ومن الحمر أو بعض السود الذين ينظر إليهم كسكان أصليين جنبا إلى جنب مع الحسانيين، بعد أن تحرروا من الرق، فكان أن أطلقوا عليهم اسم “الحراطين”. يقصدون الأحرار الطارئين، بعد أن تمكنوا من التحدث باللغة العربية بطلاقة. ثم إنهم يتألفون من الزنوج الذين ينظر إليهم كدخلاء، قادمين في الغالب الأعم من السنغال ومالي.
وكانت فكرة العنصرية من ضمن الأحاديث التي تدور بيني وبين من لي بهم صلة مباشرة من كافة الأطراف. وكنت أعتبر يومها المجتمع الموريتاني كالمجتمع الإغريقي القديم: أحرار وعبيد. مما جعل المواجهات بين الزنوج الأفارقة المؤلفين ممن يعرفون بـ”ولوف” و”بولار” القادمين من السنغال. و”صوننكي” القادمين من مالي. والذين يسميهم الموريتانيون باسم يشملهم جميعهم هو “التكارير”.
فقد شعرت مرارا بأن البيض (=البيضان) في موريتانيا يكنون عداء مضمرا وصريحا لـ”التكارير”. بينما ألاحظ تقربهم من السمر أو الحمر الذين يطلقون عليهم “الخضر بيضان” والذين يتحدثون -كما قلنا- اللهجة الحسانية بطلاقة، إلى حد أنهم ينحازون -إن صدقا وإن كذبا- إلى “البيضان” كلما تعلق الأمر بمواجهات قد تصل إلى حد وصفها بالدامية بينهم وبين “التكارير”.
فكثيرة هي المناسبات التي شاهدت فيها تشابكا بالأيدي مع السب والشتم بين الطرفين، ليس في الأسواق، وليس في الشوارع فحسب، وإنما كذلك في الحافلات. فقد عدت من عملي يوما في حافلة، فإذا بي أفاجأ بالتلاسن الشديد بين شخصين: واحد أبيض، وواحد أسود، فكان أن أحنيت رأسي حتى لا أصاب بكيس رمى به أحدهم الآخر! غير أن بعض المتدخلين، أوقفوا بعد جهد جهيد تلك المواجهة العنيفة، ومع ذلك لم يتوقف تبادل الشتائم عندما نزلت من الحافلة، وربما استمر التلاسن إلى آخر محطة لها. هذا إن لم يستعن كل طرف من أطراف الخصام بعصبيته كما يحدث في الحالات المماثلة، كهذه التي وصفناها باختصار. خاصة عندما ندرك بأن البيض يسبون ويشتمون بالحسانية، بينما المغضوب عليهم من طرفهم يشتمون بلغة لا يعرفها غير القليل القليل من الموريتانيين، وخاصة منهم التجار.
ومع ذلك لا نجزم جزما قاطعا بأن السود ليس لهم وجود في دهاليز الإدارة الموريتانية. ويرجع وجودهم بها إلى كونهم مثقفين ثقافة فرنسية. ويبدو أن الموريتانيين متحفظون -في عهد الاستعمار- بخصوص إلحاق أبنائهم بالمدارس الأهلية التي أنشأها المستعمرون الفرنسيون. إذ فضلوا إلحاقهم بالكتاتيب القرآنية، وبالمدارس العتيقة. غير أن وجود الزنوج من ذوي العرق الإفريقي في بعض الإدارات، بما فيها الوزارات، لا يعني أنهم مسؤولون عن إدارة هذه المؤسسة أو تلك. فالمعهد التربوي الوطني على رأسه وزير (بيضاني) سابق. ونفس الشيء بالنسبة لمفتش التعليم العام، والمعهد العالي للدراسات الإسلامية، والمدرسة العليا للأساتذة. مما يوضح كيف أن الهيمنة على مراكز المسؤولية تعود إلى الحسانيين كسكان أصليين في البلد الموريتاني.
فكان من الضروري -والغبن يعاني منه السود- أن نصف الوضع في حدود الثمانينيات من القرن الماضي بوضع عنصري، هو إلى الوضع بالولايات المتحدة الأمريكية أقرب! فإن وصف «البيضان» السود بـ«التكارير» فإن «التكارير» يصفونهم بـ«ليمورLimoure». وهي عندهم قدح من ورائه إشارة إلى توغل موصوفيهم في البداوة بعيدا عن الحس الحضاري، خاصة متى تم الدفع بالإسلام إلى الواجهة للاحتكام إلى مبادئه الإنسانية، كالأخوة، والمساواة، والحرية، والكرامة.
بحيث يكون العلماء في مقدمة من يهاجمونهم بخصوص غياب العدل على مستوى السلطة الحاكمة من ناحية، وعلى مستوى تصرف المواطنين تجاههم من ناحية ثانية. فقل الحديث عندهم عن الدين كأساس للعلاقات بين الناس في مجتمع تسود التفرقة والعصبية بين مختلف مكوناته.
مع أن هذا الطرح صعب تعميمه لأنني شخصيا قابلت بعض المتدينين منهم سواء كانوا قادمين من السنغال، أو كانوا قادمين من مالي. فمن جهة، هناك التعصب القبلي، ومن جهة هناك تعالي الأثرياء على الفقراء. ومن جهة هناك إشكال البيض والسود المستفحل الذي لم يحدد تاريخ ظهوره بالحدة التي شاهدناها عن قرب.
ويظهر أن تقاطر الموريتانيين على السنغال لمزاولة التجارة مبكرا، وخاصة في العاصمة داكار، هو الذي دفع بالسنغاليين إلى الالتحاق بموريتانيا لنفس الهدف الذي يتم اختصاره في البحث عن الشغل الذي يكسبون من ورائه ربحا ماديا على اعتبار تبادل المنافع بين الدولتين، أو بين الجارين اللذين لا يفصلهما غير نهر السنغال، كنهر ضفتاه عبارة عن تربة خصبة يستغلها السنغاليون فلاحيا في طرف، والموريتانيون في طرف الآخر.
وعليه يكون لزاما على الموريتانيين، احترام الوافدين عليهم من السنغال ومن مالي، كمراعاة منهم لأصول الدبلوماسية المتبادلة بين دول لها نفس الحقوق، وعليها نفس الواجبات، دون أن نزعم هنا وجود اتفاقيات في هذا الشأن بين الدولتين الجارتين. ودون أن نضبط تواريخ توافد السنغاليين بالخصوص على موريتانيا حتى أصبحت غالبية الوافدين إليها بفعل التقادم تطالب بالجنسية الموريتانية. وهذا ما عقد الأمور بين المسؤولين من الطرفين.
وأذكر هنا أن واقعة وقعت ذات مرة بين البيض وحلفائهم من جهة، وبين السود وحلفائهم من جهة ثانية. ولكنني لا أدري ما إذا كانت الأرواح قد سقطت فيها. غير أن إتلاف محتويات بعض المتاجر وحرقها قد حصل. ويومها في حدود العاشرة صباحا، كنت أتحدث إلى صاحب متجر مجاور لمنزلي، فإذا بصديق له قادم وهو لا يكف عن التلهث، وكأن أحدا يطارده كي يلحق به سوءا أشده القتل. ولما استفسره صاحب المتجر، وهو ابن خاله أو ابن عمه -لم أعد أتذكر- قال له: “الملحمة هك شور سانكيام”! يقصد شدة المواجهة بين البيض والسود، عرفتها المقاطعة الخامسة. وهذه المقاطعة مركز تجاري جل متاجره من العود والزنك، وكأنها دور هامشية للفقراء والمعوزين، كـ«سهب القايد» بمدينة سلا عندنا. مما جعل عملية تعرضها للإحراق والنهب والإتلاف عملية سهلة.
يتبع في العدد القادم بحول الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *