لم يشهد التاريخ البعيد ولا القريب مأساة كالتي يعيشها أهل غزة، إذ تداعى عليهم الجميع القريب قبل البعيد، فما أن توقفت المحرقة التي سيقوا إليها بتواطؤ مفضوح وعلني مما يسمى بالمجتمع الدولي وتحت غطاء ما يسمونه “الشرعية الدولية” حتى تحركت كثير من العواصم، وعقدت قمم لإحكام الحصار عليهم تارة لمنع تهريب السلاح الذي لم يتفق بعد على تعريفه، فقد يكون من جملة السلاح: الأدوية، والطعام، ومواد البناء، ومستلزمات المدارس، وتارة أخرى بمنع حماس من السيطرة على القطاع وغير ذلك من الذرائع.
وهذه الحالة وإن كان أهلنا في غزة يعيشونها منذ أكثر من عامين إلا أن الجديد فيها هذه المرة هي مباركة ومشاركة كثير من الدول الأوربية وغير الأوربية فيها وفق اتفاق دولي سعى إليه الكيان الصهيوني قبل وقف المحرقة بيوم واحد مع أمريكا، لتقوم الأخيرة بدور الشرطي في المنطقة، لحماية الكيان الصهيوني من الأدوية التي تدخل للمرضى، ومواد البناء التي تستخدم في إيواء المشردين في الشوارع والمدارس بعدما أقدم المحتل المتحضر والأكثر أخلاقية على دك البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد وبالمحرم من الأسلحة، وقد تطوعت بعض الدول الأوربية للمشاركة في هذه الحملة.
وقد يتخيل بعض المسلمين أنه ما دام القصف قد توقف، وهدأت الأمور بعض الشيء، وبدأت مفاوضات تثبيت ما أسموه “وقف إطلاق النار” فإن الأمر يسير، وينبغي أن تهدأ نفوسنا، ونصير إلى همومنا، فيمكن لأهل غزة أن يعيشوا تحت أي ظروف كما كانوا يعيشون من قبل، ويمكنهم التغلب على إجراءات الحصار بطريقتهم الخاصة بحفر الأنفاق تارة، وبما يتكرم به الصهاينة من فتات الطعام والشراب والوقود والدواء تارة أخرى متجاهلين أن الحصار في حد ذاته يعد عدوانا مباشرا على هذا الشعب، وهذا ما يجب أن يعيه المسلمون أولا حتى لا تصور الأمور تصويرا خاطئا، ويفهم أنه إن توقف القصف واستمر الحصار فلا داعي للمقاومة.
وهنا يلزم بيان الموقف الشرعي الصحيح من استمرار حالة الحصار الشامل على غزة، ومشاركة كثير من الدول في إحكامه، وسكوت البعض الآخر عليه، بل وربما تسويغه بمسوغات سياسية وغيرها، وهو ما نبرزه فيما يلي:
أولا: الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني بمعنى حبس أهل غزة فيها ومنعهم من الخروج منها أو الدخول إليها، ومنع الحركة التجارية بل ودخول المساعدات الإنسانية وغيرها وما يترتب على ذلك من إلحاق الضرر الفادح بالناس أصحاء ومرضى بسبب نقص الطعام والشراب والدواء والوقود اللازم وزيادة البطالة كل ذلك عده الفقهاء من صور العداون العمد والذي يترتب عليه إذا ترتب عليه موت المحاصَر أن يقتص من المحاصِر.
قال الدسوقي الفقيه المالكي ” يقتص ممن منع الطعام والشراب ولو قصد بذلك التعذيب…وقال نقلا عن ابن عرفة المالكي : من صور العمد… أن من منع فضل مائه مسافرا عالما بأنه لا يحل له منعه وأنه يموت إن لم يسقه قتل به، وإن لم يل قتله بيده ا هـ فظاهره أنه يقتل به سواء قصد بمنعه قتله , أو تعذيبه ” حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/243).
وفي الفروق (3/227): “من حبس شخصا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له”.
فهذه نصوص الفقهاء تشهد بأن من منع الطعام والشراب عن شخص حتى مات قاصدا قتله أو تعذيبه فهو قاتل مجرم، فكيف بمن منع الطعام والشراب والدواء عن مليون ونصف من المدنيين، وفرض حصارا ظالما اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا حتى أودى بحياة الكثيرين.
وهذه الجريمة التي ينفذها الصهاينة بحق شعب غزة تعد صورة من صور جرائم الإبادة الجماعية في نظر القانون الدولي المعاصر حسب ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والتي اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق أو للانضمام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 دجنبر 1948، وكان بدء نفاذها في 12 يناير 1951حيث جاء في المادة الثانية من هذه الاتفاقية صور الإبادة الجماعية على الوجه التالي: “في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى”.
فهذا النص بكامل صوره ينطبق على ما يقوم به الكيان الصهيوني في حق أهل غزة.
ثانيا: في الحصار بالطريقة التي يطبقها الكيان الصهيوني إذلال ومهانة للشعب الفلسطيني قد تكون أعظم مما يحدث في المواجهة العسكرية، فلنا أن نتصور أمة أو شعبا يمنع من الدخول إلى وطنه أو الخروج منه إلى غيره، ويمنع الطعام والشراب والدواء، بل ويمنع الحديث معه، ويعيش كما يقول العدو: “غزة لا حياة ولا موت” فيسمح بين وقت وآخر بمرور بعض الضروريات كلما أشرفت غزة على الموت، وهذه هي المهانة والذل.
ثالثا: الحصار المفروض على غزة هو من قبل عدو محتل غاصب للأرض، وذريعته في الحصار داحضة وسخيفة، فهو لا يريد رفع الحصار إلا إذا سقطت حكومة حماس أو اعترفت بحق الكيان الصهيوني في اغتصاب الأرض والاعتداء على الفلسطينيين في أي وقت، وأخيرا فتح المعابر مقابل إطلاق سراح الجندي الصهيوني “شاليط” في الوقت الذي تعج فيه معتقلات العدو بآلاف الأسرى من الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم يدافعون عن حقهم في الحياة وطرد المغتصبين، فإن لم تذعن المقاومة الإسلامية بكامل فصائلها لهذه الطلبات فهي ومن يوافقها من الحركات إرهابية، ولست أدري بأي منطق يرى بعض من الذين يسمون أنفسهم حكماء وعقلاء أن على المقاومة الإسلامية الإذعان لشروط الرباعية، وترك المغتصبين يتجولون بحرية في الأراضي التي اغتصبها العدو بينما أصحابها يعيشون في ملاجئ في هذا البلد أو ذاك؟