علو الهمة “من علامة كمال العقل: علو الهمة والراضي بالدون دنيء”

المسلم العالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب:

بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها تُنال إلا على جسر من التعب
وعالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئا في الدنيا فسوف يكون زائدا عليها، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة ، بل لابد أن يكون في صلبها ومتنها عضوا مؤثرا.

قيمة المرء ما يطلب
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: في بعض الآثار الإلهية، يقول الله تعالى: “إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته1”.
قال: والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب2). المدارج 3/3.
قال ابن القيم رحمه الله عقب هذا الكلام: “يريد أن قيمة المرء همته ومطلبه”.
إذن تكمن قيمة المرء في همته ومطلبه، فـ”من علامة كمال العقل: علو الهمة، والراضي بالدون دنيء” صيد الخاطر (20).
وعليه “ينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لكان من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، لكان المقصر في تحصيلها في حضيض.. والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل..
فكن رجلاً رجلهُ في الثرى وهامة همته في الثريا
ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجــالاً و أنت رجل، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها” اهـ، (صيد الخاطر 159-161 بتصرف).

حقيقة علو الهمة
عرّفت علو الهمة كما في رسائل الإصلاح 2/86 بأنها: “استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور”، فـ”علو الهمة ألا تقف (أي النفس) دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان” مدارج السالكين 3/ 171.
قال عمر الفاروق رضي الله عنه: “لا تصغرن همتك، فإني لم أقعد بالرجل من سقوط همته” محاضرات الأدباء 1/445.
فالله الله في علو الهمة فـ”النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة، لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفوس المهينة بالضد من ذلك” الفوائد لابن القيم رحمه الله 266.
قال عليه الصلاة والسلام: “إن الله يحب معالي الأمور وأشرفها، ويكره سفسافها” صحيح الجامع 1/1890 وغيره.
وما ذاك إلا لأنه “من علت همته، وخشعت نفسه، اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكل خلق رذيل” الفوائد 211.
فالسائر إلى الله تعالى لا يطيب سيره مع العلم النافع إلا بهمة عالية، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: همة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه” مفتاح دار السعادة 1/ 46.

أنفع الأمور لعلو الهمة
ليعلم أن من أنفع الأمور التي تعين على علو الهمة: النظر في سير السلف الصالح رضي الله عنهم.
قال ابن الجوزي رحمه الله: “فالله الله عليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم، وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهــم.
(إلى أن قال): وليكثر من المطالعة: فإنه يرى من علوم القوم، وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد” اهـ، (صيد الخاطر 440 بتصــرف).
قال أحد السلف: “الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب أوليائه، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله سبحانه: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)”.
فإن ذكر أحوال السلف والعلماء سبب لحصول الحركة في النفوس والرغبة إلى الخير واللذة والسرور فتعلوا بذلك الهمم، وهذا الذي يحدث هو رحمة من الله جل وعلا يجعلها في قلوب المؤمنين.
ولذلك كان سفيان بن عيينة رحمه الله يقول: “عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة” التمهيد 17/429 وغيره.
قال ابن تيمية رحمه الله: “الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه وانشراح صدورهم للإسلام إلى غير ذلك من السرور، وبالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح” الاقتضاء 1/21.
وقال كذلك رحمه الله: “..فتارة يكون المعلوم محبوبا يلتذ بعلمه وذكره، كما يلتذ المؤمنون لمعرفة الله وذكره، بل ويلتذون بذكر الأنبياء والصالحين، ولهذا يقال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، بما يحصل في النفوس من الحركة إلى محبة الخير والرغبة فيه والفرح به والسرور واللذة” الصفدية 2/269.
فينبغي لنا إذن “أن لا نقنع من الأعمال بصورها حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها، ومع ذلك فلتكن لنا همة عُلوية، تترامى إلى أوطان القُرْب ونفحات المحبوبية والحب، فالسعيد من حظي من ذلك بنصيب” التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار لعماد الدين بن إبراهيم الواسطي رحمه الله (25) بتصرف.
فإنه “إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البَطالة، ورَدِفَــهُ قمرُ العزيمة، أشرقت أرْضُ القلب بنور ربها” الفوائد (445) -فوائد الفوائد-.
والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- هذا مما يستأنس به.
2- قال ابن تيمية رحمه الله: “..يقول بعض الناس ويحكونه عن علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن، ولا يصح هذا عن علي، ويقول أهل المعرفة: قيمة كل امرئ ما يطلب” درء التعارض 5/ 190.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *