أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي المعافري الإشبيلي الأندلسي، أحد أعيان المذهب المالكي الكبار في الأندلس في القرنين الخامس والسادس الهجريين، تلقى أول تعليمه في بلاده، ثم خرج مع والده عند دخول المرابطين إشبيلية مسافرا إلى بلاد المشرق، مارا ببلاد ليبيا ثم مصر، لم يلبث ابن العربي أن يقوم عن مصر إلى بلاد الشام حيث منتهى العزم، وغاية الأمل، فيخترق أفق بلاد غزة، وفي ذلك يقول: «فدخلنا الأرض المقدسة، وبلغنا المسجد الأقصى، فلاح لي بدر المعرفة، فاستنرت به أزيد من ثلاثة أعوام»!.
يذكر ابن العربي بداية زياراته للمآثر والمفاخر المقدسية، فبعد أن صلى أول صلاته بالمسجد الأقصى، قصد مدرسة شافعية عند باب الأسباط، ولست أعرف لهذه المدرسة ذكرا في المصادر التي بين يدي، لكنني فوجئت بواضعي الموسوعة الفلسطينية يحكون ذكر ابن العربي لهذه المدرسة التي عند باب الأسباط، في سياق حديثهم عن المدرسة الصلاحية التي بناها الناصر صلاح الدين الأيوبي بعد فتح بيت المقدس بالقرب من سور القدس من جهة الشمال بباب الأسباط سنة 588 هـ،ثم يذكرون ممن كانوا يحضرون فيها للمناظرة عطاء المقدسي وابن الصائغ، وهذا غير سائغ، فالمدرسة التي دخلها ابن العربي بباب الأسباط كانت موجودة سنة 485 هـ ! والفقيهان اللذان ذكرهما ابن العربي هما أبو الفتح نصر بن إبراهيم النابلسي (ت:490هـ)، وكبير أصحابه القاضي الرشيد يحيى بن مفرج المقدسي!
كانت أول كلمة سمعها في تلك المدرسة متعلقة بمبحث القصاص في الحرم، فلم يفهم من كلام المتناظرين شيئا، ولا تحقق منه شيئا، لا إنكارا ولا موافقة، فكأنما طرح الزيت على نار مؤججة في صدره، انقدحت شرارتها في إشبيلية، فعاد إلى محل نزوله وقد تملكته الرغبة في ملازمة هؤلاء الفقهاء الذين لم يعهد مثلهم في بلاده، وكان ابن العربي أسير انبهار استصحبه طول رحلته، وكان لا بد من الانفكاك من قيده، بتحصيل ما عندهم، وربما التفوق عليهم، وساعده على كل ذلك استعداد طبيعي عنده، مع أنفة وترفع، ورغبة في الترقي، فاستأذن والده في الملازمة والبقاء، والتخلف عن قصد الحج ذاك العام، فأذن له.
ينكشف الغطاء هنا عن أمر غريب، وقدر عجيب، يحكي ابن العربي انه بعد الإذن بالبقاء، مشى إلى أبي بكر الطرطوشي، فإما أنه كان يعلم بنزوله ثم، أو أخبر بعد دخوله بيت المقدس، فقصد محلته في الغوير بباب الأسباط ومحراب زكريا، فلم يجده، فتتبع أثره إلى أن ألفاه بالسكينة، فوقع نظره على هديه وسمته، وسمع من كلامه وقوله، فملك عليه ذلك قلبه وعقله، وهو مسحوب بالانبهار، مغلوب بما يراه ويسمعه مما لم يألفه في جهة الغرب، فعرضه والده عليه، واستأذنه في ملازمته له فأجابه،فكان منه ما سيحكيه ابن العربي عنه.
كان من قدر ابن العربي لقاء الطرطوشي، إذ كان ببيت المقدس ملازما لعتباته، دائرا في مدار بركاته، فصحبه ولازمه، وانشغل عن الدنيا بمجالس المناظرة والمدارسة في مدارس الشافعية والحنفية، فبالغ في ارتشاف كؤوس المعرفة لا يترك فيها سؤرا ولا بقية، وقد كان لحضوره هذه المناظرات أثرا في صقل موهبة المفاوضة العلمية عنده،خاصة أن مثل هذه المناظرات لا يصلح فيها الاحتجاج بأقوال العلماء، ولا يستطيعها حفاظ المسائل، إنما يقتحمها من كان ريان من الأصول، مستوفيا للنظر في معاقدها، محسنا في استعمال القواعد وبناء فروعها، وكان ذلك مظنة شبه نعمه، وتحصيل أمله، مع استمرار حالة الانبهار، والتي أبى إلا أن يذكرها وهو يحكي رحلته، فإنها لازمته حتى رجع، ولا تزال معه إلى أن توفي رحمه الله، وهو ما يفسر أيضا قلة مبالاته بمن لقيهم في طريقه المغربية ممن وصفهم بحفظ المسائل، فإنه كتب رحلته بعد أن أقام الميزان، ومال اللسان.
استمر ابن العربي على هذا الحال ولزمه نحوا من خمسة أشهر أو ستة، حتى تمكن من أصول المناظرة، أو تمكنت منه، فبدى منه أمارة على ذلك وهو يناظر في مسجد الشافعية في بعض فروع الربا وشيخه الطرطوشي حاضر، فصادف ذلك دخول شيخ الشافعية عطاء المقدسي، فقال الطرطوشي معجبا بتلميذه : «قيضت فراخنا»، أي خرجت من بيضتها، فزاد المقدسي : «بل طارت»، وليست كل الفراخ تقيض وتطير في خمسة أشهر !
المثير في حال ابن العربي طوال هذه المدة، أنه كان حريصا على حلقات الدرس في المسجد، وكانت ثمانية وعشرين حلقة، وأخص منها مجالس المناظرة، سواء كانت مناظرات في الفروع، وغالبا ما كانت بين الشافعية والحنفية، سواء في مدرسة أبي عقبة الحنفية بإزاء قمامة، أو مدرسة الشافعية عند باب الأسباط، أو بينهم وبين المذاهب الكلامية والعقدية الأخرى، مثل الكرامية والمعتزلة والمشبهة، بل والديانات الأخرى كاليهود خاصة والنصارى، خلاف ما كان يجده عند مالكية المغرب، إذ أقصى ما يكون عندهم الأمر مناظرات في المدونة والمسائل، وتليه مجالس الدرس والمياومة، وهذا ما كان يعني أن ابن العربي عاش طوال هذه الفترة مع الانبهار، صدمة ثقافية وتربوية من كل وجه.
لم يعب ابن العربي هذه الحال، من الانفتاح العلمي على الطوائف الأخرى، فقد كان يعلم أن مدار الأمر على الحجة، وظهور معالم المحجة، بل خاض الغمار، ونافح الكبار، وهو في كل ذلك معتبر ناظر، يملأ جرابه بل أجربته، ويشحذ نصاله بل أنصلته،حتى إذا ريش وطار، حاول فوقع، ثم علا وارتفع.
وحكى ابن العربي مناظرة قصيرة ومثيرة وقعت بين شيخه الطرطوشي والحبر اليهودي المدعو التستري في معجزات الأنبياء، ولقصرها وقوتها نبه عليها ابن العربي، وقال : «وكانت نكتة جدلية عقلية قوية، فبهت الخصم»، ومثل هذا يعين على فهم نفسية هذا الفتى الراغب في التفوق، يحب القوة في الجدل، والبهت للخصم عند المفاوضة، فيستحسن أمره، ويطنب عليه بالثناء، وهو أمر لم يكن يجد مثله في بلاده بعد عودته، وبثه ما جلبه معه من ذلك، فبين المجالس العامرة بالطوائف والملل والمذاهب، والمجالس المفتوحة على المسائل والمناظرة، سيجد نفسه مرة أخرى في مجالس تغلب عليها المسائل، حتى إذا شذ عنهم رموه ونبذوه.
لم يزل ابن العربي على هذه الطريقة حتى اطلع على «أغراض العلوم الثلاثة، علم الكلام، وأصول الفقه، ومسائل الخلاف التي هي عمدة الدين، والطريق المهيع إلى التدرب في معرفة أحكام المكلفين، الحاوية للمسلك والدليل، الجامعة للتفريع والتعليل»، وهو ما كان يريده ابن العربي فوجده، وهذا النص حري بالتأمل والتحليل، أول ذلك أنه حصر العلوم في ثلاثة، علم الكلام، وأصول الفقه، ومسائل الخلاف، وهو تقسيم بديع، ويكشف غطاءه أن هذه الثلاثة كلها تجتمع على أصل واحد هو “النظر” و”الاجتهاد”، وكلها تشترك في التعليل والقياس، والثانية أن تمام العلم الجمع بين التفريع بالتنظير والتمثيل، والتعليل بالدليل، وكلاهما طريقته عقلية، وهو أمر طال المدرسة المالكية في الشام، فكانوا يدرسونها بالطريقتين، طريقة التفريع القيروانية، وطريقة التعليل العراقية، وبهما رجع الباجي إلى الأندلس، وبهما سيرجع ابن العربي. وقد بقيوفيا لما شاهده وعاشه،فلهج بذكر ما رآها وما حدث له في أرض فلسطين،فدون ذلك في مصنفاته،وحكاها في مجالس مدارساته، هكذا كان بيت المقدس في حياة ابن العربي وغيره من علماء الغرب الإسلامي، وهكذا رأوه، وهكذا ينبغي أن نراه.