أثار انتباهي كلمة صدرت من أحمد عصيد في مقال له بعنوان: (إلى مصطفى بنحمزة في معنى القيم الكونية) في خصوص الحريات في المرجعية الدولية لحقوق الإنسان ولفظها:
(لا يجوز تأويل مضامين هذه المرجعية بغير ما تعنيه بالفعل، حيث لا تقبل مفاهيم حقوق الإنسان التحريف والتلاعب في دلالاتها وأبعادها).
قلت: سبب إثارتها لانتباهي أنها نفس العبارة التي نخاطب بها بني علمان حينما يتناولون كتاب الله تعالى بالتأويل الفاسد.. ولبيان هذا سآخذ نفس العبارة وأغير بعض الكلمات فيها فتصير:
(لا يجوز تأويل مضامين آيات القرآن بغير ما تعنيه بالفعل، حيث لا تقبل مفاهيم آيات القرآن التحريف والتلاعب في دلالاتها وأبعادها).. فما رأيكم!
بل إننا معشر المسلمين نرى أن الجرأة على تأويل نصوص أنتجها العقل البشري القاصر أهون عندنا من جرأتهم على تأويل نصوص الوحي التي نعتقد أنها من كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقال في مقال بعنوان: (إلى السلفيين المغاربة حتى لا يكون حوار صم) وهو يبين معنى القيم الكونية الحاملة لمشروع الدفاع وتقرير حقوق الإنسان:
(المرجعية الدولية لحقوق الإنسان التي نعتمدها في تناولنا لقضايا الحريات والحقوق نعتبرها مرجعية [كونية] بمعنيين:
الأول: أنها نتاج إسهام كل الحضارات والثقافات الإنسانية.
والثاني: أنها وُضعت لكل الشعوب والأمم بناء على ما يشترك فيه البشر، وهي إنسانيتهم).
وهذا كلام فيه من التدليس ما يكشف مقاصد سوء النية ومكامن شرور الطوية في القصة كلها أو جهل مركب بحقيقة الإعلان، فإن من أنتج هذه النصوص أصالة ثمانية رجال على رأسهم امرأة…!
أما المرأة فهي إليانور روزفلت أرملة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت.. ولم يكن لها دور في الصياغة، وأما الرجال فتشارلز ديوكس من إنجلترا، ورينيه كاسين من فرنسا، وجون هومفيري من كندا، وهيرنان سانتا كروز من التشيلي، ووليام هودغسون من استراليا، وبينغ تشينغ من الصين، وتشالز مالك من لبنان.
والظاهر أنه روعي في تشكيل اللجنة الانتماء الجغرافي غالبا.. بدليل أنهم جعلوا تشالز مالك النصراني ممثلا للشرق الأوسط…على حسب تقسيماتهم.
وسؤالي: أين الممثلون لألمانيا بلد الحضارة الجرمانية وأصل القوط الذين استوطنوا غرب أوروبا؟!
أين تركيا العثمانية، واليابان بلد الساموراي، وأندونيسيا وباقي النمور الآسيوية والهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين، والهند بلاد الحضارات، وإفريقيا القارة بأبيضها وأسودها، بل أين الممثلون للحضارة الإسلامية أم أنها ليست حضارات عند القائمين على إعداد الإعلان؟!
أما ألمانيا وتركيا واليابان فلأنهم المنهزمون في الحرب العالمية الثانية..
وأما الهنود الحمر فلأنهم يكشفون الوجه الحقيقي لدعاة حقوق الإنسان الأمريكيين.
وأما الهند فلأنها تابعة للإنجليز.
وأما الدول الإسلامية فلأنها تمثل الحضارة الإسلامية..
وأما أفريقيا فلأن غالب دولها مستعمرات فرنسية.. وأسيادها ينوبون عنها..
فأول ما قد تتهم به لجنة صياغة الإعلان أنها لجنة عنصرية شكلت على نقيض حقوق الإنسان بامتياز.
وبخصوص الممثل العربي فنصراني في انتمائه التقليدي…
فهل الحضارة العربية حضارة نصرانية؟
ثم لا يغرنك أن الصيغة عرضت على لجنة حقوق الإنسان المكونة من 18 عضوا ثم على 50 دولة وافقت غالبها وتوقف مجموعة لا بأس بها من التصويت وامتنعت بعض الدول، فلم يكن ذلك إلا بروتوكولا رسميا ونوعا من الغطاء الدولي للصيغة النهائية بعد تعديلات طفيفة على المسودة الأولى… فيما يشبه تقديم المبتدأ وتأخيره في الكلام العربي… كما هي حالة قرارات مجلس الأمن، حيث الدول دائمة العضوية صاحبة حق الفيتو والذي هو أحد حقوق الإنسان الخاصة جدا… وهي السكين الذي ذبحت بها قيمة المساواة على العتبات المقدسة للفكر الغربي!
فهل هذا إعلان حضاري أو سياسي!!!
الذي أعتقده أنه سياسي بامتياز، وضع بناء على مفهوم الهيمنة والإمبريالية العالمية، فجعل أداة وظيفية لخدمة مصالح الدول -دائمة العضوية في الإمبريالية- السياسية والاقتصادية، ووسيلة للضغط السياسي والاقتصادي على الدول التابعة المهيمَن عليها.
وهذا يعني تشكيكا في المكون الأخلاقي للإعلان الذي أطره انقسام العالم بين معسكر شرقي غربي.. ولذلك غلب على الجو السائد لعملية الصياغة مراعاة الفلسفتين المتضادتين.. الاشتراكية والليبيرالية دون غيرهما، ووضعت الصياغة التي تحتمل الفلسفتين لإعلان حمال ذي وجهين. وكان القدر المشترك الذي تحدث عنه أحمد عصيد هو القدر المشترك بين الفلسفتين، الصيغة دون المضمون المتدافع، والناتج هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الأبيض على من دونه!
فما قاله أحمد عصيد إذن كذب فلم يكن الإعلان ممثلا للحضارات، فقد أهدرت حقوق كل الحضارات عند الصياغة ووضع الخطوط العريضة إلا الحضارة الغربية بأصولها ومستغربيها من أذنابها، وعلى باقي الحضارات أن تأخذ مكانها في مدار حولها إلى ما شاء الله!