سرطان الزندقة الباطنية.. حقيقته ومقاصده “الجزء الاول” طارق الحمودي

لعل من أهم الفروق بين الأمراض الظاهرية كالتي تكون على الجلد والأمراض الباطنية التي يكون سببها هجوم بكتيري أو فيروسي أن الأولى سهلة المرصد والمعاينة والمعايرة،وأن الثانية تحتاج إلى تشخيص خاص يستبطن الداء ويستكشف نوعه ومستواه وموضعه،وكلما كان المرض أبطن كان أخطر.

عرف التاريخ الإسلامي وتراثه مذهبا فكريا وعمليا معاديا للوحي والأنبياء وأتباعه،ظهر منذ نزول آدم عليه السلام وزوجه إلى الأرض،وقد كان إبليس المؤسس الحقيقي لهذا المذهب،وقد كشفت الدراسات العلمية عن آثار ظهوره عبر التاريخ الإنساني الطويل في صور وهيئات مختلفة سيفاجأ الباحث بالوقوف عليها.

صح في الحديث أن لإبليس عرش يضعه على الماء يجتمع عنده أبتاعه وعباده من العالم كله يعرضون عليه أعمالهم وما بلغوه في مهامهم،وقد كان إبليس وأتباعه من العفاريت والشياطين قد لبسوا على طوائف من الإنس فعبدوهم من دون الله،فتمثلوا في أصنامهم وأوثانهم وتصوروا في صور صالحيهم وفلاسفتهم.

بل وصل الأمر إلى العبادة المباشرة كما هو حال عبدة الشياطين اليوم،ولست أقصد العبادة الفلكلورية المشهورة التي يمارسها بعض الشباب،بل عبادة حقيقيا يمارسها المنتمون لهذه الديانة على مراتب المنظمات الماسونية كالمرتبة الثالثة والثلاثون.

ما معنى الباطنية؟

تنحصر استعمالات مصطلح «الباطنية» من وجهة نظري في خمسة استعمالات:

الاستعمال الأول

أما الاستعمال الأول فيرى أن أصل الكلمة من إبطان خلاف المعتقد الإسلامي،وعلى هذا ابن تيمية في قوله: «سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون»[1]،وهو أمتن من قول تلميذه عماد الدين ابن كثير في البداية: «يقال لهم الباطنية لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض»[2]؛ موافقا في ذلك ما ذكره ابن الجوزي[3]، وأدنى منه بل مطابق له أن جعلهم الفخر الرازي من «الذين يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين»[4]،وهذا يعني أنهم قد يتسترون تحت كل مذهب،ومن ذلك أنهم قد يتسترون بالتصوف كما قال ابن خمير السبتي[5]،  وبكل ما لا يجدون فيه نوعا من التمنع الفكري، ويكون مموها وساترا أغراضهم السياسية والفكرية.

 الاستعمال الثاني

وقريب منه الاستعمال الثاني الذي يرى أن أصله من سرية المذهب وسرية الدعوة إليه وإبطانها،وهو استعمال ابن خلدون، إذ يقول «وكان هذا المذهب بعد موت ذكرويه وانحلال عقدتهم بقي منبثا في الأقطار ويتناوله أهله ويدعون إليه ويكتمونه ولذلك سموا الباطنية»[6]،وما يميزه عن الأول هو إظهار عنصر جديد في التعريف، وهو الدعوة السرية،ويدخل تحته التكتم على مؤلفات خاصة تحوي علم القوم وأسرار معتقدهم وفكرهم.

الاستعمال الثالث

وأما الثالث فيرى أن أصلها من الاعتقاد بأن للوحي ظاهرا وباطنا، فيقول السمعاني: «الباطني،بفتح الموحدة وكسر الطاء المهملة، وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى فرقة يقال لها الباطنية،وإنما لقبوا بهذا اللقب لدعواهم أن لظواهر الآيات من القرآن بواطن،وهي المراد بها دون ما عرف من معانيها في اللغة»[7].

وعليه ابن الجوزي في المنتظم فإنه قال: «وأما تسميتهم بالباطنية: فإنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن، تجري مجرى اللب من القشر»[8]،واكتفى القاضي عبد الجبار بوصفهم بالغلاة[9]، وكذلك المقريزي[10]،وأما الشهرستاني فقال: «وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا»[11]، وهو أعم من تعريف السمعاني.

ولعل من أدق التعاريف وأمتنها مما يتعلق بجانب التنزيل ما حققه ابن واصل (المتوفى سنة 697هـ)بقوله: «إنما سموا الباطنية لأنهم ينزلون القرآن على معان موافقة لرأيهم، ويصرفونه عن ظاهره»[12]، فلاحظ قوله «ينزلون،يصرفون،موافقة لرأيهم»، فقد علل الوصف بالصرف عن الظاهر بقصد موافقة الرأي،وإن شئت قلت: إنه كل تأويل أيديولوجي، وهو مماسأعول عليه في بحثي إن شاء الله.

وتحسن الإشارة هنا بطريقة موجزة إلى أن التأويل الذي جعلوه من معالم الفكر الباطني قريب من مفهوم الهيرمينوطيقياHerméneutiqueبمعناه القديم، وهو -كما يقول هانز غادامير-الفن «الذي يسمح بالكشف عن مسألة مبهمة وملغزة»[13]،وبطريقة أكثر تفصيلا «تأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية، تبعد عن المعنى الحرفي المباشر،وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة»[14].

وثم من يربطه من حيث الاشتقاق بـ”هرمسHermes” الذي كان اليونانيون يعتقدون أنه المبلغ عن الآلهة، وشكك هانز في ذلك،لكن التماثل بينهما في خصوصية الغموض والخفاء ثابت كما يقول عادل مصطفى في “فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا[15].

الاستعمال الرابع

وأما الاستعمال الرابع فيرى أنهم سموا بذلك لحصرهم معرفة خاصة في جماعة خاصة، كما في موسوعة لالاند ونصها: «مجازا،تقال على كل تعليم محصور في حلقة ضيقة من المستمعين،إن الباطنية هي العقيدة التي ترى أن العلم لا يجوز أن يشاع بين الناس،بل يجب أن يظل محصورا في نطاق مريدين معروفين ومختارين على أساس عقلهم وأخلاقهم، عند المعاصرين مرادفة لشيء مستور،تنطبق على القبالة،السحر،العلوم التنبئية الخ»[16]،وهو موافق لما في معجم لاروس الفلسفي.

الاستعمال الخامس

وقريب من هذا النوعُالخامس، وهو ما اختارهأصحاب المعجم الفلسفي  بقولهم:«باطن immanent،ما يكون جزءمن الشيء أو داخلا فيه،على جهة الدوام،فيقال قوة باطنة،وفي مذهب وحدة الوجود:ماهية الله باطنة في العالم،أي أن الله والعالم واحد»[17]، وهذا يعني أن النسبة إليه نسبة إلى القول بوحدة الوجود من بعض الوجوه!

والمقصود من هذا أن ماهية الله غامضة باطنة،وهي أحد المعاني الستة التي ذكرها “فيفر”،والتي تعني الغامض والخفي في النبات والصخور والمعادن المشار إليه بالإشارات والرموز، والتي يسلك الفلاسفة مسالك عقلية لتأويلها والكشف بها عن ما وراءها من الحقائق،وهو معنى مثير أيضا سيكون لي معه وقفات خاصة إن شاء الله،ومن وراء هذا،يبدو أن المعجم سلك في تعريفه طريقة بعض الأدبيات الغربية التي تعاملت مع الصفة لا النسبة،فإنه اكتفى بتعريف «الباطن» عن تعريف «الباطنية».

وخلاصة هذا أن الباطنية تجمع تحتها خمسة من المعاني:

    • التأويل،وما يتبعه من مسائل كالقول بالظاهر والباطن للنص والكون.
    • النفاقوالتقية.
    • العلوم السرية،نظريا وممارسة،ويدخل تحتها كل ما كان خاصا بنخبة.
    • الدعوة السياسية السرية التي قد تؤول إلى حمل السيف والثورة على الدولة والمجتمع.
    • وحدة الوجود وما يتفرع عنها من القول بوحدة الأديان وغيرها.

——————————–
[1]مجموع الفتاوى (7/309).

[2] البداية والنهاية (14/236).

[3]تلبيس إبليس ص102.

[4] اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص86.

[5] مقدمات المراشد ص97.

[6]العبر  (4/121).

[7]في الأنساب (1/260).

[8] (12/287-289)، ومثله في التلبيس (ص102).

[9] المغني في أبواب التوحيد والعدل (الجزء العشرون/الإمامة/2/173).

[10]الخطط (2/126).

[11] الملل والنحل ص128.

[12]في مفرج الكروب  (1/211).

[13]فلسفة التأويل ص62.

[14] من كلام لعبد الوهاب المسيري نقله عنه معتصم السيد أحمد في “الهرمنيوطيقا في الواقع الإسلامي” ص18.

[15]ص26.

[16]ص361.

[17](ص30).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *