لازالت يومية «الأحداث» سادرة في غيِّها؛ ومخلصة لنهجها الذي يبتسر الأمور، ويطمس الحقائق، ويعتمد سياسة الكذب والنفاق والتلفيق.. مستعملة للترويج لفكرها المتطرف كل الطرق القذرة؛ غير آبهة إطلاقا بخطر ما تكتبه وتنشره بين الناس..
ولازال «الزغب» -وإلى اليوم- يشكل بالنسبة لهيئة تحرير اليومية المذكورة «فوبيا» عسر عليهم فعلا التخلص منها؛ رغم ادعائهم في كل مناسبة أنهم يحترمون الاختيار الفردي للأشخاص.
فلا عيب أن يستشكل الإنسان بعض الأمور، ولا تتكون عنده نظرة صحيحة لفكر يخالفه أو نهج لا يوافقه أو سلوك لا يتقبله؛ لكن التراكمات التي يحصلها في مدرسة الحياة، مع التشوق والتشوف إلى البحث عن الحقيقة بتجرد؛ وتجاوز مرحلة الرعونة والتعصب والحماس غير المنضبط، من شأنه ذلك كله أن يفتح عين الإنسان على أمور كثيرة، وينظُرَ إلى القضايا بعين العقل والتحليل، فيجري مراجعات لما يستصنمه، ويعتقد أنه الحقيقة المطلقة!!!
فبعد مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية التي استهزأت من خلالها اليومية المذكورة بصحيحي البخاري ومسلم، والنقاب والحجاب، والدين والتدين، وأحكام شرعية وسنن نبوية، ها هي ذي تعاود الكرة مجددا وعبر الأسلوب نفسه، وتوظف اللحية كي تصور المتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه متطرف وجاهل بكل العلوم الإنسانية، يكرر كلاما لا يفقهه، ويعادي العلمانية وهو لا يكاد يعرف عنها شيئا.
بين العلمانية والإلحاد
لن أتطاول على مجتمع أعيش بين أبنائه؛ وأعرف جيدا طريقة تفكيرهم، فأرميهم كما فعلت «الأحداث» بالجهل والأمية..، ذلك أن الأمية الحقيقية ليست هي الجهل بمبادئ الكتابة والقراءة فحسب، وإنما الأمية هي أن لا يعرف الإنسان سبب وجوده في هذه الحياة، ويعيش هائما على وجهه كالبهائم؛ هدفه إشباع بطنه وتلبية نزوات فرجه؛ فيعلل كل ذلك بهرطقات وفلسفات لا أول لها ولا آخر.
صحيح أن مجتمعنا يعج بسلوكات منحرفة يجب تصحيحها، لكن كثيرا من أفراده يعرفون العلمانية جيدا ويرفضونها، لذا أوصى الجابري في كتبه رفاقه بالإعراض عن استعمال هذا المصطلح لأنه مرفوض شعبيا؛ والاستعاضة عنه بمصطلح الديمقراطية.
العلاقة بين الإلحاد والعلمانية ليست كما افترت يومية الأحداث، وإنما هي علاقة عموم وخصوص بين المصطلحين، فكل ملحد علماني بالضرورة، وليس كل علماني ملحد.
وقد كانت قواميس الدول الغربية التي نشأت فيها هذه المصطلحات واضحة في تعريف العلمانية وعلاقتها بالإلحاد؛ وكفتنا مؤنة التوضيح والبيان والتطويل والتمطيط في العبارات.
فقد جاء في القاموس الإنجليزي أن كلمة علماني تعني:
دنيوي أو مادي/ليس بديني أو ليس بروحاني/ليس بمترهب، ليس برهباني.
وجاء أيضاً في نفس القاموس أن العلمانية: هي النظرية التي تقول: إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية.
وجاء في دائرة المعارف البريطانية أن العلمانية هي: حركة اجتماعية تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدنيا وحدها.
ودائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، وقد قسمت الإلحاد إلى قسمين: إلحاد نظري وإلحاد عملي، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي، وهو أمر مفهوم وواضح؛ لأن العلماني يرفض حكم الله تعالى المؤطر لكافة مناحي الحياة، فهو حتى إن اعترف بوجود إله خالق رازق، فهو يرفض الانصياع لأوامر الإله الذي خلقه ورزقه وأحسن صورته.
ثم إن العلمانية ليست هي فصل الدين عن السياسة فحسب؛ كما ادعت «الأحداث»، وإنما العلمانية هي فصل الدين عن كافة مناحي الحياة؛ سواء السياسي منها أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي والفني.. أو غير ذلك.
وعليه يجب أن يعلم أن الملتح وغير الملتح المعادي للعلمانية ليس جاهلا ولا غبيا حين يقول إن العلمانية عدوة الدين، وإنما الجاهل هو من يروج لمصطلحات لا يبحث عن أصولها ومصدر استمدادها، ولمفاهيم لم يحرر بشكل واضح الغرض منها، ولعبارات نشأت في بيئة مختلفة وثقافة مغايرة فيعمد إلى إقحامها عنوة في الخطاب التداولي اليومي ومن تم يخلص إلى نتائج خاطئة ومغلوطة ومضللة.
السياسة والدين
لأكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف؛ لم تكن السياسة لدى المسلمين تنفك عن الدين بإطلاق، ولم يكن يعرف قط؛ وفي العالم الإسلامي برمته من شرقه إلى غربه؛ فصل بين الديني والسياسي؛ وكتب الفقه والسياسة الشرعية والنوازل والتاريخ شاهدة على ما أقول.
ولا يسمح لنا المجال ها هنا كي نعرج على أول من أدخل هذه البدعة وسوق لها حتى صارت من المسلمات لدى التيار اللاديني، إلا أنه يجب أن نعلم أن السياسة التي يؤمن بها المسلمون والتي تقرها الشريعة لا علاقة لها بسياسة النفاق والكذب والخداع المؤسسة على فلسفات بشرية ومذاهب وضعية؛ ولا هي «فن الممكن» كما يعبر عنها الفاسدون في المجال السياسي؛ لأنها سياسة (يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل بها وحي).
فالسياسي المسلم كغيره من أفراد المجتمع مخاطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وداخل في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، ويشمله قول نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان».
أما ما تطالب به «الأحداث» ومن يندرج في سلكها في المجال السياسي فهو استحلال الكذب، والنفاق، وإخلاف الوعد، ومخالفة القول للفعل، وعدم الوفاء بالعقود، والنيل من الخصوم واختلاق الأكاذيب والأراجيف حولهم، بهدف إضعاف قاعدتهم الانتخابية والوصول إلى مكاسب دنيوية.
فالسياسة عندهم منفصلة عن الدين ومنفكة عنه، فكل ما من شأنه أن يخدم البرنامج السياسي والأهداف المسطرة فهو مباح وحلال وجائز…
فهذه سياسة من لا خلاق لهم، ومن لا يرقبون الله في أعمالهم وتصرفاتهم ومشاريعهم.
العلمانية سببها «رجال الدين» (وَحْنَا مَالـْنَا)؟
«رجال الدين» مصطلح كنسي لا صلة للمسلمين به، فكل المسلمين سواسية في التكاليف والأحكام، وكلهم معنيون بالخطاب الشرعي وملزمون بتطبيقه؛ إلا من تعذر عليه ذلك لأسباب محددة ومسطورة، فلا وجود في الإسلام لرجال دين وغير رجال دين.
كما أن علماء المسلمين لا يدعون العصمة كما هو في دين النصارى الذي يتخذه اللادينيون مرجعا للحكم على الإسلام، ولا يزعمون أن أقوالهم والأحكام الاجتهادية التي يصدرونها مستوحاة من عند الله تعالى، ولا أن حفظ النصوص الشرعية وتفسيرها حكراً على سلالة أو طبقة معينة من الناس، بل هو حق مكفول ومتاح لكل من حصَّل العلم الشرعي حسب قواعده، وتوفرت فيه أهلية النظر والاستدلال، بغض النظر عن لونه أو جنسه أو قبيلته أو عشيرته، وتاريخ المسلمين حافل بذلك، فهذا البخاري خرساني، ومسلم نيسابوري، والشاطبي أندلسي، ونافع شيخ ورش فارسي من أصبهان.
وحتى إن شهد التاريخ والماضي والحاضر والمستقبل على أن الإسلام ليس فيه إكليروس ورجال دين وصكوك غفران.. فستظل «الأحداث» تكرر هذه الأسطوانة المشروخة البائدة.
الكذب الصراح: العلمانية هي التي قضت على الحروب!!!
بصراحة؛ تستوقفني درجة «التسنطيح» الكبيرة التي تحظى بها «الأحداث»، فلم يرف لها جفن ولم تحمر لها خدود وهي تدعي أن سبب الحروب هو الدين وأن العلمانية «غير جات قضت على الحروب».
الحمد لله أننا في عالم الأحياء، وأن الكذب في مثل هاته القضايا يصعب كثيرا، فما أن حلت العلمانية محل النصرانية المحرفة في أوروبا وأمريكا حتى أشعلت الحروب بينهم وبين غيرهم، وأشعلت فتيل حربين عالميتين راح ضحيتهما 54.800.000، نعم أربع وخمسون وثمان مائة وألف قتيل، دون الحديث عن الجرحى والمصابين.
وانتقل الغربيون المشبعون بقيم الحرية والأخوة والمساواة ليحتلوا معظم العالم الإسلامي، وينهبوا خيراته ويسفكوا دماء أبنائه ويغتصبوا نساءهم، وييتموا ويشردوا أطفالهم.
ولم تكتف جنود الغرب وآلته الحربية بالبطش واستعمال القوة المفرطة للتبشير بالعقيدة العلمانية الجديدة، بل استعملوا ترسانة من الوسائل والآليات المستحدثة، استهدفوا بواسطتها العقيدة والشريعة، فغيروا بعد احتلالهم بلاد المسلمين مناهج التعليم وحشوها بالنظريات والفلسفات المادية، واستحوذوا على المشهد الإعلامي وسوقوا من خلاله للنموذج والثقافة الغربية، وعبثوا بالمشهد السياسي عن طريق إنشاء ودعم أحزاب متناحرة ذات مرجعيات علمانية متعددة المشرب مختلفة الهوى، وزينوا للمرأة التبرج والسفور وأرهبوها من العفة والحجاب وربات الخدور، ودجنوا الشباب والنشء وشغلوه بسفاسف الأمور، وطرحوا في قرارة قلبه وساوس وشبهات جعلته أول الواقفين ضد استرجاع أمته حقوقها وقيمها وهويتها.
وفي الختام
رجاء قليل من الاحترام لعقول الناس، فالعلمانية سواء الشاملة منها أو الجزئية تعادي الدين، وقد وضعت أصلا من أجل إقصائه، وهي ليست فصل له عن الدولة فحسب، بل فصل وإبعاد للدين عن كل مناحي الحياة، وهي سبب إزهاق ملايين من الأرواح وبحار الدم لا زالت جارية إلى اليوم بسبب هذا الفكر اللاديني المتطرف.