إن الواجب على المربّين والآباء والأمّهات والمعلِّمين والمعلّمات أن يعلموا أنَّ خيرَ القلوب أوعاها وأرجاها للخير، وأولى ما عُنِي به الناصحون ورغِبوا في أجره: إيصالُ الخير إلى قلوبِ أولادهم.
ولا خير خير من الوحيين: كتاب الله وسنة رسول الله. ولهذا كانوا يلقبون معلم أبنائهم: مؤدب الصبيان1 ، والتراث الإسلامي غني بالقصص والعبر 2الدالة على حرص الوالدين على تعليم أبنائهم العلم النافع الجامع بين المعارف والتربية والأخلاق .
فلم تكن التربية قط يوما عندهم مقتصرة على مقاعدِ الحجر في المدارس. لأن التربيّة والتعليم في حقيقة الأمر صناعةُ الأجيال وصياغةُ الفكر وتشكيلُ المجتمع وتأهيلُه مع التوجيه.
إنَّ الأبَوَين المستحقَّين للدّعاء هما من أحسن تربيةَ أبنائهما تأمل معي مقابلة الدعاء بالتربية في قوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء:24 وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: “من دعا إلى هدًى، كان له من الأجرِ مثلُ أجورِ من تبِعه، لا يُنقِصُ ذلك من أجورِهم شيئًا. ومن دعا إلى ضلالةٍ، كان عليه من الإثمِ مثلُ آثامِ من تبِعه، لا يُنقِصُ ذلك من آثامِهم شيئا” صحيح مسلم الرقم .2674
ولله در من قال:
أَعلِمتَ أشرفَ أو أجلّ من الذي يبني وينشئ أنفسًا وعقولاً؟!
ولهذا أناط الله بالآباء مسؤولية إنقاذ أبنائهم من النار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} التحريم:6. والأمر بالوقايةِ هنا للوُجوب، ومن لم يتق ويقِ يُسأَل كما في الحديث: “كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتِه، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والرجلُ في أهلِه راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والمرأةُ في بيتِ زوجِها راعيةٌ، وهي مسؤولةٌ عن رعيتِها، والخادمُ في مالِ سيدِه راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيتِه..” صحيح البخاري الرقم:2409.
إن أولادنا هم غرس المصطفى صلى الله عليه وسلم وثمرةُ دعوته وجهاده، وأحفادُ أصحابه المؤمنين، رضوان الله عليهم أجمعين. ولهذا فمن الخلطِ والتّضليل فرضُ العَلمنَة بحجّة التطوير، أو إقصاءُ الدين لمواكبة العلم.
يقول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر:28، فيها الدليلٌ على أنّ العلومَ النافعة هي المقرِّبة من الله ولو كانت من علومِ الدنيا، كما يخطئ البعض في تسميتها .
وذلك باصطِباغها بصِبغة الإيمان.. فتُعمَر الدنيا ويظفر بالآخرة. عكس ما وصل إليه غيرنا من أرباب الحضارات المزعومة، المُصدرين لمناهج التربية والتعليم. لأن الفخر الحقيقي لا يكون في بناياتٍ تعانِق السّحابَ والأخلاق والفضائل مدفونة تحتها في التراب؟! وليس الربح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين، وشُغِلت العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ الملذات من المادّة الجافّة في غفلةٍ عن الآخرة؟ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} الروم:6-7. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} الشورى:52-53.
نعم هذه هي الحضارة المادية التي أنتج عِلمُها -الذي لم يهذِّبه دينٌ ولم يقوِّمه خُلقٌ- جيوشًا جرّارة، ترتكِب المذابح، وتغتصِب النساء، وتتاجر بأعضاءِ البشر كأنها قِطَع غيارٍ عالميّة، إنّه علمٌ يجعلُ المنتمين له سكارى، لا وازعَ لهم ولا حيَاء.
فليس بعامر بنيانَ قوم إذا أخلاقهم كانت خرابا!!
دون أن ننسى أن هذه الحضارة العلميّة المادّية لم توفِّر لشعوبها طمأنينةَ القلب، وسكينةَ النفس، وهدوءَ الأعصاب، والأمنَ الشّامِل، والسلامَ العادل.. والعالم كله ينزِف من ويلاتِ القتل الجماعيّ والتدمير الإباديّ، إن عالَم الحضارة اليوم يئنّ من موتِ الضمير وإفلاس الأخلاق: السّرقة والاختلاس والغشّ والرّشوة والترويجُ والخيانات، والغدر.. كل هذا باسم التعليم من غير تربيةٍ..
فكان ضررُه أكثر من نفعِه. لأن المناهج والنّصوص مهما كانت سامِيةً لا يكون لها تأثيرٌ فعّال إلا إذا تحوّلت إلى واقعٍ متحرِّك وترجمةٍ عمليّة في السلوكِ والمشاعر والأفكار، وحاجتُنا إلى القلوبِ العامرة بالإيمان ليست أقل من حاجتنا إلى الرؤوس المشحونةِ بالمعلومات الجافة.
فلا يمكن بحال أن نقبل ما أسِّست عليه مناهج التعليم ببلادنا من فلسفات تناقض الدين، حتى يغدو الإيمان محورًا لمبادئها، والإسلام إطارًا لمناهجها. لتنتظم كل العلوم في عقد يتلألأ ويصدح بـ”لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
كل حلقة منه تسبّح الخالق سبحانه، وتقر بقدرته ووحدانيته، وبهذا تتكامل العلوم وتُستثمر النصوص في مختلف المناهج؛ لتحقِّق أهدافًا سلوكية بجانب الأهداف التعليمية، حتى يحمل الطالب الأدبَ والفضيلة والعلم والإيمان، وتكون كل مادة من المنهج مرتبطة بالدين، خادمةً له.. لهذا كانت أوّل خُطوات التعليم في الإسلامِ تهيئةُ القلب، وتأديبُه بأدبِ النبوّة وأخلاقها: أمانةِ وصدق واستقامة وعَدل وإخلاص وصلاح ظاهر وطَهارة سريرة، إلى غير ذلك من المثُل العُليا..
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الجمعة:2.
قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: “أوّل العلم الاستماع، ثمّ الفَهم، ثمّ الحِفظ، ثمّ العمَل، ثمّ النّشر”.
إن من واجب القائمين على التربيةِ والتعليم ببلادنا تقييمَ مسارِنا التربويّ لصناعة الشخصيّة المسلمة السّويّة.. فالرجال يصنعون ولا يولدون. قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} مريم 12، وقال لموسى عليه السلام لما آتاه الألواحَ فيها التّوراة: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} الأعراف:145.
والأساسُ في هذا كله هو القرآنُ الكريم تفسيرًا وتدبرا وتجويدًا وحِفظًا، لأنه النّبع الذي لا ينضَب، والسعادةُ التي لا حدَّ لها، والعِزُّ المشِيد والرقيّ الحميد..
فتصبح المناهجُ على مختلفِ تخصُّصاتها -شرعيّة كانت أم عِلميّة- تُغذّي القلوبَ بعظمةِ الله وخشيتِه وإجلاله في كلّ وقتٍ وحينٍ، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فصلت:53.
فلا بد إذن من ربط التعليم والتربية بالقرآن الكريم ليعيش أبناؤنا قلبا وقالبا مع القرآن ولا يتصور نقيض هذا وأول مصادر المعرفة الإسلامية هو هذا الكتاب الخاتم.
وقبل أن أسدل الستار عن هذه الهمسات أحب أن أذكر بقضية كبرى إلى جانب ما ذكر قبل وهي مسألة اللغة. فاللغاتُ من أعظمِ شعائرِ الأمم التي بها يتميّزون، ولغتُنا العربيّة رمزُ عِزِّنا وعنوانُ مجدنا وأصالتِنا وسيادَتنا، واللسانُ العربيّ شِعار الإسلام لارتِباطه بأهمّ مقدّساتِ المسلمين: الكتابِ والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “اللغة من الدين”.
ولا يخفى علينا جميعا ما يعانيه جيلُنا المشهود من ضعف لغوي، وإنه لمظهرٌ من مظاهِر تخلّف الأمة، لأنه حين تتهاوَى اللغة تسقُط معها أسُسُ العقيدةِ ومعالم التاريخ وسيادَة الأمّة..
ولن تعجزَ لغة حملت حضارةَ العالم أربعةَ عشر قرنًا، عن تدريسِ العلوم كلِّها بلسانها في مدارسها وجامعاتها، وتعريبُ التعليم أسلمُ للُغةِ الأمّة وأحفَظ لكرامتها وسيادتها، وما زال السّلف يكرهون تغييرَ شعائر العَرب حتى في المعاملات، ومنه التكلُّم بغير العربيّة إلاّ لحاجة، وثبت عن إمامنا مالك رحمه الله قوله: “من تكلَّم في مسجدِنا بغير العربية أُخرِجَ منه”.
أسأل الله العلي الكريم رب العرش العظيم أن يهدينا سبل الرشاد، وأن يكتب لنا التوفيق والإخلاص والسداد.
———————
1 – المعلِّم هو الركيزة الأساس، وعليه تدور رحى التعليم، فلا بد من استقرارِه نفسيًّا وماديًّا وإكرامِه من عامّة المجتمع. قال النبيّ ” انّ الله وملائكته وأهلَ السموات والأرض يصلّون على معلِّم الناس الخير. رواه الترمذي.
– تقول أمّ سفيان الثوريّ -الذي غدا في عصره علَمًا وبين أقرانه نجمًا ساطِعًا-: “يا بنيّ: خذ هذه عشرة دراهم، وتعلّم عشرةَ أحاديث، فإذا وجدتها تُغيِّر في جلستِك ومِشيتك وكلامك مع الناس فأقبِل عليه، وأنا أعينُك بمِغزلي هذا، وإلاّ فاتركه، فإني أخشَى أن يكونَ وبالاً عليك يومَ القيامة”. ويمكن الرجوع إلى سيرة الإمام مالك للاستئناس .
2 – لأن من الخطأ تصنيف العلوم إلى علوم دنيوية وأخرى أخروية, والصواب والله تعالى أعلم : أن تصنيفها ينبغي أن يكون بحسب مقاصدها وغاياتها وليس مواضيعها. فكلُّ علمٍ نافع فهو مطلوب شرعًا.