روحـانيـات ذة. لطيفة أسير

 

بوصلة الطريق

من جميل ما صادفتُ بكتاب (البيان والتبيين) ما نقله الجاحظ عن الحسن رحمه الله أنه سمع رجلا يعظ، فلم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرِقّ عندها، فقال له: (يا هذا، إن بقلبك لشرٌّ أو بقلبي).

أي أن كلامه ما كان له صدى إما لضعف الإخلاص من الواعظ، أو ضعف يقين وإيمان من المستمع.

وفي هذا رسالة لكل خطيب أن يحقق الإخلاص لله في دعوته، ولا يبتغي بها عرضا من أعراض الدنيا، كما هو حال الوعاظ اليوم الذين امتلأت الفضائيات والمواقع بخطبهم دون أن تجد لها صدى بين الناس.

وما أجمل قول الشيخ الأديب فريد الأنصاري عن الإخلاص حين قال:

“فيا قلبي العليل!.. إخلاصَك إخلاصَك! قبل فوت الأوان! إخلاصَك في كل كلمة، إخلاصَك في كل خطوة، إخلاصَك في كل حركة، إخلاصَك في كل سَكَنَةٍ، إخلاصَك في كل فكرة، إخلاصَك في كل خَطْرَةٍ! فالإخلاص هو صمام أمانك، وهو بوصلة سيرك، وميزان عملك، وضمان وصولك! وإنك إن تَعِشْ لحظةً واحدة بغير إخلاص؛ تكن قد وضعت مصيرك على فوهة مدفع الشيطان! فالنجاءَ النجاءَ، والبدارَ البدارَ، والفرارَ والفرارَ إلى الاحتماء بحصن الإخلاص قبل فوات الأمان!”.

 

المسجد

كثيرٌ منّا قرأ مقولة شهيرة لرئيسة الحكومة الصهيونية (كولدا مائير) حين حدثوها عن النبوءة الصّادقة التي يؤمن بها المسلمون مِنْ أن حربا حاسمة ستقع رحاها بين المسلمين واليهود وستكون الغلبة يومها للمسلمين، فأجابت بثقة جواباً يغفل عن حقيقته الكثير من المسلمين “لن يتحقق ذلك إلا إذا كان عدد المصلين في صلاة الفجر كصلاة الجمعة”.

فالمسجد (الترمومتر) الذي يقيس به خصومنا درجة يقظة الأمة وغفلتها، وهو في الفجر أشدّ دقة، لأن صلاة الفجر كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أشد صلاة على المنافقين، إذْ تحرمهم متعة النوم والاسترخاء الكاذب.

فحين ترى المساجد مكتظة بروادها في وقت الفجر، فاعلم أن الأمة قد قامت من سُباتها، وأن الفُرُش الوتيرة أو الحقيرة ما عادت تُغريها، وأن هَدْأَة الليل ما عادت تُطربُها إلا تراتيل الفجر، وتهليلات العابدين.

حين ترى المساجد مكتظة بعُمَّارها في وقت الفجر فاعلم أن النفاق قد فارق القلوب، فما عادت تستثقل القيام للصلاة ليلا، وما عادت تصغي للوسواس الخناس.

عَجبي كيف يفطن أعداؤنا لهذه الحقيقة ونغفل نحن عنها! ويْكَأنّه عُمِّي على عقولنا وطُمس على قلوبنا فما عدنا نميز الصالح من الطالح، ولا ما يصلحنا مما يفسدنا!

 

المولد النبوي

حين تستشعر حجم الحدث العظيم الذي كان الكون يتهيأ لاستقباله بعد ساعات، تشعر برهبة شديدة وتتمنى لو كنت ذرة من ذرات الكون حينها لتتفاعل مع هذا الميلاد العظيم.

يتجدد شوقك لرؤية ذاك الوجه القمري الذي غيّر الله به نواميس الكون، ينمو بين حناياك حنين عظيم لتلك الصورة الإنسانية العظيمة التي عاشت بين الناس بخلق كريم وأبتْ إلا أن تكون رحمة مهداة لكل الأنام.

يتأكد لك أنّ العبد الذي ينمو تحت عين الله لا يفتأ أن يكون حدثا عظيما متى حافظ على صلته الوثيقة بربه.

ليس كل ميلاد يكون عظيما، لكن ميلاد العظماء لا يكون إلا عظيما، وحياة العظماء لا تكون إلا عظيمة، وأخلاق العظماء لا تكون إلا عظيمة.

طابت الذكرى بميلادك يا سيدي يا رسول الله، وطابت الحروف وهي تبوح بشوقها في ليلة الميلاد الأنور.

 

شوق المحبين

قد يخالج نفسك ريبة وأنت تقرأ حديث أهل الأدب -نثرا وشعرا- عن الشوق، ليقينك أن الكثير من هذه الكتابات لا يعدو أن يكون حرفا يسرّ القارئين ويرضي أفئدة العاشقين، لكنك لن تتمالك نفسك وأنت تقرأ عن هذا الشوق وأثره في نفس المحبين الصادقين حين تقرأه على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسأل خادمه ثوبان وقد تغير لونه وجهه ونحل جسمه من شدة شوقه لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، تكاد كل ذرة في قلبك تتفاعل مع الحدث لصدق تعابيره وسمو معانيه: “يا ثوبان، ما غيّر لونك؟” فقال: يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك تُرفع مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة كنتُ في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حينٌ لا أراك أبداً. فأنزل الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} الآية 69 سورة النساء.

فيا حبذا بأحباب محمد صلى الله عليه وسلم حين يحبون ويشتاقون!

 

لسنا ملائكة

حين يتحدث أحدنا عن الفضائل، ويدعو للتحلي بها، فهذا لا يعني سمو قدر الداعي، وملائكية طبعه. فالزلل والخطأ طبع إنساني، وما من ثوب أبيض إلا دنّسته الذنوب قليلها أو كثيرها، ولو توقف عن الدعوة لدين الله كل من عصاه لما دعا للدين أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذا لا تفترض أخي القارئ العصمة ممن يذكّر نفسه ويذكرك بالله، ولا تحقرنّ حالك إلى حاله، بل خُض غمار الدعوة ولو بكلمة طيبة امتثالا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً» رواه مسلم.

 

وفي أنفسكم!

لو أنّنا عشنا ديننا بحقٍّ فيما بيننا، وحفظنا حقوق بعضنا البعض، وتآزرنا في كل مُلِمّاتنا، وكنّا كالجسد الواحد لأغريْنا الآخر بديننا ولقطعنا أشواطا عظيمة في الدعوة إلى الله. لكن ترَدّي أحوالنا وبُعدنا عن كثير من قيمنا السمحة يُنفّر الآخر منّا، فنكون عونا للشيطان عليهم.. فكم نفسا أخّرْنا دخولها للإسلام أو صددْناها عن هذا الدين الحنيف!! ويحقُّ لتلك المرأة النصرانية أن تصرخ فينا “لئن كان ما ذكرتموه عن دينكم صحيحًا إنكم لظالمون! فقيل لها: ولماذا؟ قالت: إنَّكم لم تعملوا على نشره بين النَّاس والدَّعوة إليه!!”.

ثوابتنا.. خطٌّ أحمر

بعضُ العقليات التائهة السابحة مع تيار المناوئين للإسلام، تعتقد أن الثوابت حجر عثرة نحو التقدم، ولهذا فهم يتحمّسون لنقض عُرى ديننا الحنيف، مدّعين سفهاً أنها تمنع الأمة الإسلامية من اللحاق بركب الحضارة، ونسي هؤلاء أن الغرب نفسه -على علّات ثوابته التاريخية- ظلّ متمسكا بقيمه الحضارية وحريصًا على مبادئ ثوراته التي قامت على أكتافها أوطانهم.

ثوابتنا صمام أمانٍ لاستمرارنا، وما جعلها الله إلا أداة بناء للأمة، ولا يزيغ عنها إلا هالك.

 

كُنْ محمّديا

كثيراتٌ منا نحن المحجبات أو المنتقبات كنّ متبرجات، حتى أنعم الله علينا وهدانا للالتزام بالزيّ الشرعي، لذا لا أحبّذ بعض الخطابات الدعوية التي تصف النساء غير المحجبات بأوصاف فيها من الشدة والقسوة الشيء الكثير ” كالعاهرات و ما شابه ذلك “. فهذا أسلوب مُنفّر يتنافى و قيم ديننا الحنيف التي علّمنا إياها رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، والتي ترتكز على التيسير والتبشير بدل التعسير والتنفير..فمهما كانت المعصية لا ينبغي أن نجعلها سُبّة و نلمز البعض بها، فما الفرق بين أن تذبح أخاك بسيف، وتذبح أختك بكلمة. وعندنا في المغرب مثل شعبي يقول “ضَرْبَة بِدَمّْهَا ولاَ كَلْمَة بِسَمّْهَا”. فكن أخي الداعية مُحمديّاً في نهجك الدعوي، ودعْ عنك النهج الداعشي. ولا تنسَ “لعل الله يُحدثُ بعد ذلك أمراً”.

 

مرَارَة

ضَحالة الثقافة الدينية عند الشباب مؤشر خطير على الهوة العظيمة بيننا كمسلمين وبين ديننا ومصادره.. والقول بارتفاع نسبة التديّن لدى الشباب بسبب المحافظة على بعض الشعائر الدينية ليس مؤشرا واضحًا على سلامة البناء الديني، لأن الكثير من المتدينين لا يفقهون من دينهم غير الاسم ولا يعرفون من قرآنهم حتى الرسم، وقد شعرت بالأسى وأنا أتابع فيديو عن شباب عرب طُلب منهم أن يذكروا أسماء بعض الصحابة، وكانت الطامة الكبرى أن أحدهم قال ”الرسول صلى الله عليه وسلم”!! وبعضهم اختلط عليه الصحابي بأصحابه!!

ألاَ يُدمي حالُ شبابنا قلب كل غيور على دينه وأمته!!

 

اللهم إيمانا كإيمان العجائز!

ابتليتُ يوما بالجلوس أمام التلفاز، فأخذت أقلب القنوات ذات اليمين وذات الشمال بغير هدى، لعلمي أنْ لا شيء يثلج الصدر بهذا الصندوق الكئيب، وفجأة استوقفني برنامج حواري له صيته يعرض على قناة “القاهرة والناس” المصرية، حيث كان المذيع يحاور بنوع من الدهاء أحد “حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام”، استغربتُ جرأة “الشيخ” على أحكام الشرع بدعوى الاجتهاد، وتطاوله على سلف الأمة بدعوى “هم رجال ونحن رجال”، واستحسانه لترهات بعض الوجوه المعادية للإسلام.، فتذكرت حينها القول المأثور “اللهم إيمانا كإيمان العجائز” يُنجي العبد من هذه الضلالات والانحرافات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *