عنوان السلسلة حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق.. المقدمة الشعارية للسلسلة الذل والضعف وفساد العمل.. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار. وطريق إصلاحها في الحوار.. وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق

.الحلقة 10:

 

مِن أين يمرّ الطريق؟

أصول مفاهيمية فلسفية

3-نسبية الحقيقة ونبذ المطلق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ذكرنا آنفا أن الفكر المؤسس للأمم الغربية منذ عصر الأنوار، سار بخطوات حثيثة نحو نبذ جميع أنواع المطلقات، بدءا بالمطلق الديني، ومرورا بالمطلق العقلي، وانتهاء بجميع أنواع المطلق – على الأقل من الناحية النظرية!

ولا شك أن مزاج ما بعد الحداثة، أطلق العنان للتحرر القيَمي، وأرسى دعائم النسبية الشاملة في مسارات مختلفة.

فعلى صعيد النظرة الفلسفية إلى الكون والحياة والمجتمع، وهي النظرة التي تنبني عليها المسارات الأخرى التفصيلية، انعدمت النظريات الإطلاقية في البحث عن الحقيقة، وتقرر عند فلاسفة العصر الحديث التأكيد على انعدام الحقيقة من حيث هي، وأن الحقيقة في جميع المطالب الفلسفية الكبرى تختلف باختلاف الناظر وزاوية النظر وظروفه الحضارية. وصارت السيولة الكاملة هي المهيمنة على النظريات الفلسفية القائمة.

وعلى الصعيد الديني، وصلت النسبية إلى قمةِ تحكُّمِها، ليس فقط في معنى التعددية الدينية والمذهبية، ولكن أيضا في آلية فهم النصوص الدينية، وتطويعها لثقافة العصر المهيمنة. فالأول من خارج الدين، والثاني من داخله!

ففي المحور الأول، تنظر العلمانية للأديان -من برجها العاجي المهيمن على أفكار الناس وقيمهم– نظرةَ تسوية، لا يتميز فيها دين عن غيره، ولا مذهب عقدي عن سواه؛ إذ جميع ذلك طرق متعددة، تُحقق للأفراد سعادتهم الشخصية في الدائرة الفردية الضيقة.

وفي المحور الثاني، تُسلّط العلمانية عدّتها المفاهيمية الصارمة على فهم الدين من داخل الدين نفسه! فيسعى علماء الدين المؤجِّرون عقولَهم للعلمانية المهيمنة، إلى إعادة قراءة النصوص الدينية بالمناهج القرائية المعاصرة التي لا تجعل للنص معنى ثابتا في نفسه، بل يصبح معناه سائلا يتشكل بحسب فهم القارئ وثقافته!

وعلى الصعيد السياسي، تسيطر العلمانية -منذ قرون- على الفكر السياسي الغربي، وتزيد سيطرتُها كل يوم بمقدار نقص التأثير الديني على الحياة العامة، وأفولِ فكرة الإلزام والواجب في مجال القِيم. وإذا كانت العلمانية في الأصل تعني الفصل بين الدين والدولة، فإنها – بعد مسار تطوري طويل – صارت تعني تغييب جميع المرجعيات المتجاوِزة عن الفعل السياسي. وغيابُ المرجعية الفكرية الصارمة، يقتضي نسبية تامة في العمل السياسي ومخرَجاتِه التشريعية والتنفيذية.

ويتأكد الأمر بالتلازم “المَاصَدَقي” بين العلمانية والديمقراطية -على الرغم من التمايز “المفهومي” بينهما– ومن المعلوم أن الأفكار تتشكل تحت المظلة الديمقراطية –على الأقل نظريا- بحسب الأهواء المتقلبة لعموم الناس. فلا شيءَ ثابتٌ، وما يكون اليوم ممنوعا يصبح غدا مسموحا به، إذا قررت هيئة التشريع المنتخَبة من عامة المواطنين ذلك!

وإنما ذكرتُ أن هذا المبدأ نظري، لأن حقيقة الأمر أن الرأي العام لا يكون أبدا حرا، بل هو متحكّم فيه من طرف مجموعات الضغط الاقتصادية والإعلامية كما سيأتي.

وعلى صعيد الإبداع الفني والأدبي، فإن الفن الحديث لم يعد يخضع لأي معيار جمالي ثابت، بعد سقوط جميع القواعد “المطلقة” في هذا المجال. ولذلك، صرنا نرى اللوحة التشكيلية البيضاء الفارغة تباع بآلاف الدولارات([1])، والكتاب الفارغ الذي جميع صفحاته بيضاء يعتلي قائمة المبيعات([2])، والديوان الشعري الركيك التي لا يعدو رصّ الكلمات دون معنى معقول يحصل على الجوائز التقديرية، إلى غير ذلك.

بل حتى ذوقُ المتلقي لم يعد معيارا مقبولا! أما المعيار القيَمي الذي يحدد ما يجوز في الفن وما لا يجوز، فقد أُسقط من الاعتبار منذ زمن بعيد!

وعلى صعيد الأخلاق، طغت الفردانية، وغاب الإلزام الأخلاقي، وصارت العلاقات بين الجنسين وقواعد الأسرة محكومة بالأهواء الشهوانية، دون اعتبار لأية شرائع ربانية ولا أخلاقية، سوى الالتزام بالقوانين المتغيرة. ولذلك ما كان ممنوعا لاعتبار أخلاقي منذ عقدين، صار اليوم مباحا دون إشكال، مثل: زواج الشواذ في فرنسا منذ نحو أربع سنوات، ثم في ألمانيا قبل أيام قليلة.

نعم، إنه زمن السيولة في كل مجال، والنسبية في كل الحقائق. ولكن ما تزال توجد بعض “المطلقات” التي استحدثها الغربيون، تقوم مقام الدين والعقل.

وأهمها في واقع حالهم اليوم مطلقان لا يُقبل النقاش حولهما:

الأول: هيمنة العلمانية على الفكر السياسي الغربي، ومنع خروج الدين من الدائرة الخاصة، وتدخله في الحياة العامة.

والثاني: هيمنة المال وأربابه على الإعلام والسياسة؛ وتطويعهم الرأي العام لمفاهيم الاستهلاك المتوحش، وإخضاعهم القرارَ السياسي والاقتصادي لما تقتضيه مصالحهم المادية الضيقة.

والله الموفق.
——————————-
[1]– نقلت وسائل الإعلام أن الفنانة الأمريكية لانا نيوستروم عرضت عام 2014 لوحات فارغة، بيعت بمبالغ طائلة، بلغ بعضها مليون دولار!
[2]– نشر البروفيسور شريدان سيموف سنة 2011 كتابا بعنوان “What every man thinks about, apart from Sex”
أي: “ما يفكر فيه كل رجل، غير التفكير في الجنس”؛

تفوق في مبيعاته على الجزء الاخير من رواية “هاري بوتر” ورواية “شيفرة دافنشي”، مع أنه فارغ تماما، لا شيء فيه غير العنوان!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *