قل هو من عند أنفسكم
عقب حادث اغتصاب أمينة فيلالي وانتحارها بعد فترة من تزويجها قضائيا بمغتصبها، نظمت فعاليات نسائية وجمعيات حقوقية، وقفة احتجاجية تعبيرا عن رفضها للفصل 475 من القانون الجنائي مطالبة بإلغائه حيث أنه “يتيح لمن اغتصب قاصرا الإفلات من العقاب إذا ما قبل الزواج بضحيته”. كل هذا تم ويتم -دائما- دون الكشف عن الأسباب الحقيقية التي كانت وراء هذا الحادث والتي بها تأثر. فكما أن المسببات دائما تابعة لأسبابها، فإن النتائج دائما تابعة لمقدماتها.
والمجال هنا مجال تشخيص طبيعة الحادث بكل صراحة وواقعية؛ بقدر حجم المشكلة وشكلها؛ دون تخوف من مواجهة الحقيقة، وذلك قبل فوات الأوان حيث لا يجدي الاعتراف أو النكران. لاسيما أنه حادث يقع كثيرا ويتكرر وقوعه. فنحن لسنا أمام حادث، عابر أو سلوك فردي، وإنما نحن أمام حادث هو أقرب إلى الظاهرة. مما يكشف أن ما أصاب أمينة فيلالي كان بفعل أفكار فاسدة ونظريات فاجرة وثمرة مبادئ منحرفة هي التي أسهمت في صنع وصياغة هذا النمط السيئ من أفراد المجتمع.
فالحقيقة الواقعة هي أن هذه المضار التي نعاني منها، وهذه المصائب التي أصابتنا ويتأذى بها أبناؤنا، هي نتيجة طبيعية لمجتمع تسمح قوانينه للشر أن ينتفش حتى يصبح عرفاً اجتماعيا؛ وأن يصبح فعله سهلاً يجترئ عليه كل من يهم به.
فتمجيد الفاحشة وتزيينها للناس عبر وسائل التوجيه الرسمية، ومباركة الفجور والتشجيع على الاتصال الجنسي وتهييج النزوة الحيوانية بالرواية الفاجرة والفلم الفاحش والأغنية العفنة والأقلام الدنسة، وهتاف النساء في الشوارع بأجسادهن العارية إلى الرذيلة؛ حتى غلبت بهيمية الإنسان إنسانيته، وعلت حيوانيته بشريته، ووقع في مستنقع الفاحشة، وعمت الفوضى الجنسية. وأضحت الزنا مظهراً من مظاهر الحرية الشخصية، والعري جمالا فنيا، وكشف السوءات مظهرا تقدميا، وأضحى العهر مهنة جنسية وليس دعارة. إلى أن صار الأمر بنا إلى هذا المستوى المنحط من الانحراف والهبوط الأخلاقي؛ دعارة، إجهاض، اغتصاب، تحرش جنسي، خيانة زوجية، عنف ضد المرأة…، ارتفاع نسبة أبناء الزنا والأطفال غير الشرعيين، ارتفاع نسبة الزانيات أو كما تسميهن الجمعيات الحقوقية خداعا الأمهات العازبات…
فمتى كانت تلك المقدمات كانت هذه النتائج وتفشت هذه المظاهر لا محالة. ويتفشى معها بقدر انتشارها التشرد والأمراض الجنسية الفتاكة، والأمراض النفسية والعصبية؛ كالجنون والقلق والاكتئاب. إلى غير ما أسهمت به من أوضاع فاسدة.
وصدق من قال:
ألقاهُ في اليمَّ مكتوفاً وقال له إيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تبتلَّ بالماء
بل الأعجب من ذلك أن هذه الجمعيات المتصايحة وهذه الفعاليات الحقوقية النسائية منها والذكورية المتأثرة بالفكر العلماني هم أنفسهم الذين يدافعون عن حقوق الإجرام والفساد ولا يستقبحون الفواحش باسم الحريات الفردية!!
فالزنا عندهم من الحرية الفردية!!
ومعاقرة الخمور من الحرية الفردية!!
والممارسة المثلية من الحرية الفردية!!
ثم هم ينشدون مجتمعاً طاهراً نظيفاً، فما أعجب حالهم!
وليس أعجب من أن يتحدث أمثال هؤلاء عن الإصلاح!!!
بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
ما أشبه اليوم بالبارحة؛ فهذه الوقائع وهذه الأحداث تأكد بجلاء أن حال هؤلاء اليوم في دعوى الإصلاح لا يفترق عن حال أولئك بالأمس فيما أخبر به القرآن عنهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة:11).
وإلا فمن كان وراء وضع هذا القانون الجائر القاضي بتزويج المغتصبة بمن اغتصباها، وهم يتوددون إليه ويواعدونه بإفلاته من العقوبة إذا ما تفضل وتكرم ورضي بها زوجة له، وكأنهم يكافئونه على فعله الاغتصاب، الإسلام أم العلمانية؟!
ومن كان وراء القانون القاضي بحق الزوج في العفو عن زوجته الزانية، وحق الزوجة في العفو عن زوجها الزاني، وهذه ذياثة قانونية. الإسلام أم العلمانية؟!
ومن يعتبر مواقعة الرجل امرأة عن رضا لا تعد زنا الإسلام أم العلمانية؟!
ومن لا يعتبر مضاجعة الخاطب خاطبته زنا، الإسلام أم العلمانية؟!
نعم حين ندرك جسامة جريمة الاغتصاب التي اقترفت ضد أمينة فيلالي وما نجم عنها من جريمة الانتحار، وما سبقها من جريمة انحراف الأخلاق وجريمة التشجيع المنظم على الانحلال، وجريمة اغتصاب المسلمين في حقهم الشرعي وتنظيم حياتهم وفق مبادئ إسلامهم، هي ليست جريمة واحدة. إنما هي جريمة تلو الجريمة، وهكذا هو الشر يتتابع بطبعه. حينها ندرك آثار الفكر العلماني بقوانينه الوضعية المنحطة وهزالة حلوله التي لم ترق إلى مستوى تحقيق كرامة الإنسان في مجتمعاتها الأصلية الغربية -وهي تعاني ما تعانيه من الضنك والدمار على مستوى الإنسانية- فضلا عن أن تحققها في مجتمعاتنا الإسلامية.
حين ندرك هذه الحقيقة سندرك عظمة الشريعة الإسلامية، وهي تعتبر الأخلاق الفاضلة أولى الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. وهي القاضية بإدانة الجاني بعقوبة الجلد وإلزامه بمهرها مقابل ما استحله منها في حالة اغتصابه دون تهديدها بسلاح، أما إن كان عن تهديد بسلاح فله حكم الحرابة والذي هو القتل أو الصلب أو النفي أو القطع من خلاف.
كما سندرك تفوق أحكام الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية، وصلاحيتها للتطبيق في عصرنا كصلاحيتها في الماضي. مما يكشف عن جهل العلمانيين، ويدحض دعواهم عدم صلاحية هذه الأحكام للتطبيق في العصر الحاضر. ويؤكد بما يكفي أنها شريعة كل وقت وكل زمان وكل عصر وكل مكان.
فالشريعة الإسلامية حين شددت عقوباتها على الفاحشة بعدما هيأت أسباب العفة؛ وضعت أحكامها على أساس محاربة دواعي الجريمة بما يصرف عنها، فهي وضعت على أساس متين من العلم بنفس الإنسان وطبيعته {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14).
فإذا كانت دواعي الزنا اللذة والاشتهاء والاستمتاع، فلا يصرف المرء عنها إلا حصول الألم وتذوق العذاب. أما دعوى أن عقوبة الجلد فيه انتقاص واحتقار لكرامة الإنسان، فإنها دعوى لا أساس لها عقلا، فمن لم يوفر الاحترام لنفسه لا يحترم. والرأفة بالمجرمين تشجع على الإجرام، والعذاب الذي يصحب العقوبة هو الذي يؤدب من أجرم، ويجزر من لم يجرم من الأشرار. وليس من مصلحة من تتوق نفسه وتشتاق نهمته إلى لإجرام أن يفهم أن العقوبة هينة لينة لا تؤلم ولا تدعو للخوف. وهذا الواقع يشهد أن القوانين الوضعية عجزت عن ردع الزناة وأن عقوبة الحبس ساعدت على إشاعة الزنا وتفشي الفاحشة وليس العكس.
فالشريعة الإسلامية لم تضع عقوبة الجلد للزاني اعتباطا، فهي قد حاربت الجريمة في نفس من اختار الانحراف على الاستقامة قبل محاربتها في حسه، صيانة للأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، ومحافظة على مجتمعها نظيفاً عفيفاً شريفاً. ومن ثم فالزنا في اعتبار الشريعة الإسلامية جريمة تمس بكيان الجماعة وتهدد سلامتها. خلافا للقوانين الوضعية العلمانية فهي ترى الزنا من الأمور الشخصية التي تمس علاقات الأفراد دون الجماعة.
وحسبهم هذا الفرق بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين القوانين الوضعية، فإن عجزوا عن إدراكه فالأولى بهم أن يعجبوا من عقولهم. فما يعجز عن إدراك مثل هذا الفرق سوي العقل. وصدق الله العظيم القائل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (يونس:100).
فمتى يدرك العلمانيون هذه الحقيقة الواضحة وهم يحاولون أن يشرعوا للناس قوانين غير التي شرعها العليم الخبير الحكيم البصير القدير؟
ومتى ينتهون عن هذا التعنت الناشئ عن جهالتهم واستكبارهم؟
فمن ساءه صدقا ما وقع لأمينة فيلالي، لا يسعه إلا الوقوف إجلالا والمطالبة جهارا بتحكيم الشريعة الإسلامية، اعترافا على أنها شريعة أسمى وأفضل وأرقى من أن تقارن بالقوانين الوضعية، وأن القوانين الوضعية لا تزال أدنى من مستوى الشريعة الإسلامية.