عندما تنعت إشراقات الماضي بالظلامية والماضوية البئيسة

محمد بوقنطار
med.boukantar@gmail.com

عندما نتكلم عن حقيقة ما وصلت إليه الأمة من ترد وتسفل جعلها في ذيل قائمة الأمم، تسترزق الدواء والكهرباء والأمن والغذاء، تجرأ عليها دافع الجزية في غير صفاقة فوصفها ورماها “بالرجل المريض”، في دلالة رمزية لها وقعها في نفوس من سمعوها على موائد القسمة والابتزاز، كما لها تأثيرها في نفوس الأجيال والناشئة من الذين مررّها لهم التعليم الأكاديمي كحقيقة تاريخية، وامتحنهم في غير استدراك، مثمّنا لهم الإقرار بها بعد الفهم والحفظ بالنجاح والثناء الحسن، في مناخ انقلبت فيه المعايير وحرّفت المعاني، وصارت معرفة المسلم عموما بدينه ومعهود لسان أجداده معرفة سطحية هي أقرب ما تكون إلى الجهل والبدائية.
وقد صوّر فصيل المنبهرين بثقافة الغرب ومدنية صقيعه القاتل، من الذين أصابهم حظ من قاعدة ابن خلدون الاجتماعية “المغلوب مولع بتقليد الغالب” بضابط أن هذا الولع تشبع حد التخمة من استهلاك القشور، وضرب صفحا عن منافع اللب وحكامة القلب.
قلت صوّر هذا الفصيل لجيل عريض من أجيال الأمة أنه: لا خلاص له من هذا الجهل ولا انفكاك له من ثقل هذه القيود وأغلالها إلا بمخاصمة وخلق قطيعة وانسلاخ تام المراحل متكامل الأطوار عن المنظومة الفكرية والهوية الثقافية التقليدية، والتي ما فتئت هذه السخائم المنبهرة في خواء ترميها بالمسؤولية الكاملة عن هذا التردي والتخلف الحضاري والتسفّل المدني، وتربطه في غير حياء بالمشهد الثقافي والمعرفي والأخلاقي الذي مارسته ولا تزال تمارسه القيم الإسلامية التقليدية، في بيئة ومناخ زمني وعصر حداثي شطر فيه العقل الغربي الذرة، ومشى الرجل الأبيض على سطح القمر، وغزت أقماره الاصطناعية الفضاء، وأسبغ على جنسه التفوق الآلي المدني والعسكري أنواعا من الغلبة والقداسة انحنت لها في إخبات ومتبوعية كاملة فئام عريضة من جنس ونوع المغلوبين.
ولعلنا لا نشك في مدى تأثير ثقافة الغرب وهيمنته في قضية منطق تفكير الشباب المسلم اليوم، بل وتشكيل تصوراته وتوجيه نظرته إلى تراث الأسلاف بمنظار أسود وفقاعة رؤية، اشترك في صنعها وركز محدداتها في نفوس الناشئة المسلمة هذا الغرب نفسه بمعية جوقة محاضنه المحلية، هذه المحاضن التي لعبت دورا لا يُستهان به في التنفير من ماضينا وماضي أسلافنا.
حيث عملت ما في الوسع والطاقة في محاولة منها تصوير وتحوير إشراقات ذلك الماضي في قالب جهالات وجاهليات عائدة، مستشرفة عبر هذا التحوير حصول الأزّ والدفع برعيل الأمة إلى البراءة والشعور بالمعرة والعار الذي يحول بينها وبين الإحساس بعظيم ما تنتسب له، عامدة في هذا الخصوص إلى الأجناس من الأقليات المسلمة بتحيين مدخول يذكي نار الفتنة، ونافخة بكيد فائق التدبير في رماد نعرات العرق والدم والقبلية في سياق المظلومية، ومرارات الاستغراب الممارس عليها حسب الزعم في دائرة ما لزم ويلزم من النفس التوسعي للإسلام وصفة الغزو والسطو على الحقوق المدنية للشعوب الأصلية والتي مارسها المسلمون بمنطق هؤلاء ومن تولاهم ورفع لواء توصياتهم، من الذين ما فتئوا ينادون ويرفعون شارة التشكّي والاحتجاج بدعوى أن ثمة خلل عميق طبع ولا يزال يطبع موروثهم الثقافي وتواجدهم الأصلي وما ترتّب على مصيره التاريخي من أحقية واستئثار، ويحول دون أنسنة تراثهم، وتغليبه على الوافد الطارئ، ومنحه أي هذا التراث التفوق الذي يفرضه المنطق، ويعطي لأعرافهم التميّز.
فتقر وتلغي وتثبت وتنسخ، بل وتزن أمور المواطنة بميزان نعراتها الضاغطة على جميع التصورات ومحركات الأفكار التي أسبلت ثوبها على أرض وعرض وروح الشعوب الأصلية زمن الهيمنة الإسلامية.
وهي للإشارة عين المرحلة التي تنعت وتوصف في سياق له مقاصده وأهدافه -هي دونها هنا- بالعهد الظلامي والجاهلي، أو الوراء الذي تسعى القوى التنويرية اليوم والأمس القريب قبله بخلق حالة انفكاك وخصومة مع موروثه التاريخي والفرار من سلطة ظلاميته الضاغطة نحو الأسفل أو الدافعة إلى ذلك الوراء كما يُشاع ويحب أن يُصدّر كانطباع…
ولعله الانفكاك والفرار الذي يضعنا في صلب الفكرة المحورية التي تدعو الحاجة والضرورة إلى وضع اليد على مكامن الخطر فيها، ومواجهة الكثير من انحرافاتها وزيغها المعرفي، ذلك أن مجرد التفكير في وضع منظومة ومقاربة علاجية، سيدفع لا محالة تحت طائلة الإحساس بشرف وكلفة هذا النوع من التصدي إلى لفت انتباه هذه الأجيال المستهدفة، وخلخلة بعض المعطيات والمعروضات الملغومة التي لم تصل لحد المسلمات في وجدان الكثير من شباب الأمة.
وبالتالي يبقى الأمل قائما وراجح الغلبة في إمكانية حمل هذه الأجيال بالرفق واللين والحكمة في مناخ يطبعه الإنصاف والتجرد، إلى وجهة النهل بل العودة القوية إلى النهل من إشراقات ذلك الماضي، ثم الوقوف على حقيقة ما عاشه الأسلاف من قوة ومنعة وتمكين ومدنية فاضلة لامس عدلها سقف الطوباوية، ومن ثم ترسيخ هذه الحقيقة وجعلها قاعدة انطلاق لربط مآسي هذا الحاضر وتفكيك منظومة أسبابها، في ظل إشراقات ذلك الماضي يوم كان هذا الرجل الأبيض المعربد حالا يستجدي الأمن من الخوف والإطعام من الجوع، بل ويستبقي على نسله وجنس نوعه بدفعه لرواد وأعلام ذلك الماضي أو الوراء رسوم الجزية في جو تختزل أحواله ومواصفات واقعه الحضاري رمزية “اليد الصاغرة”.
إضافة إلى حقيقة تأثر الأقليات غير المسلمة في جغرافيا الإسلام، بل خارجها في قلب أوربا حيث نفوذ وسلطة الكنيسة واللسان الأعجمي، كما حكى أسقف قرطبة “ألقارو” كاشفا بلوعة حزن ومرارة استرجاع عن ضغط القيم الإسلامية ولسانها العربي المبين، والتهامها لجمهور عريض من أبناء طائفته النصرانية قائلا في سرد وإخبار يجدر بنا أن ننقله بطوله كما تحملت عناء نقله المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكه” في كتابها “الله ليس كذلك”، مستشرفين من خلال وارف ظل سطوره ورحمة مباني ألفاظه رد بهتان النابزين رجما بالغيب لذلك الماضي المشرق، من الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تحويل إشراقاته في وجدان جيل الحاضر إلى ركام ظلامي وركس حقير بئيس:
“إن كثيرين من أبناء ديني يقرؤون أساطير العرب ويتدارسون كتابات المسلمين من الفلاسفة وعلماء الدين، ليس ليدحضوها وإنما ليتقنوا اللغة العربية ويحسنوا التوسل بها حسب التعبير القويم والذوق السليم.
وأين نقع اليوم على النصراني- من غير المتخصصين- الذي يقرأ التفاسير اللاتينية للإنجيل؟! بل من ذا الذي يدرس منهم حتى الأناجيل الأربعة، والأنبياء ورسائل الرسل؟.. واحسرتاه! إن الشبان النصارى جميعهم اليوم، الذين لمعوا وبذوا أقرانهم بمواهبهم لا يعرفون سوى لغة العرب والأدب العربي! إنهم يتعمقون دراسة المراجع العربية باذلين في قراءتها ودراستها كل ما وسعهم من طاقة، منفقين المبالغ الطائلة في اقتناء الكتب العربية وإنشاء مكتبات ضخمة ، ويذيعون جهرا في كل مكان أن ذلك الأدب العربي جدير بالإكبار وبالإعجاب! ولئن حاول أحد إقناعهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف، ذاكرين أن تلك الكتب لا تحظى باهتمامهم!… وامصيبتاه! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم، فلا تكاد تجد اليوم واحداً في الألف يستطيع أن يدبج رسالة بسيطة باللاتينية السليمة، بينما العكس تعبيرا وكتابة وتحبيرا، بل إن منهم من يقرضون الشعر بالعربية، حتى لقد حذقوه وبذوا في ذلك العرب أنفسهم”.
ورب قائل والصدق يعانق مبنى ومعنى رثائه لذلك الماضي، إذ قال الشاعر العربي:

 

يا من رأى عمر تكســــــوه بردته        والزيت أدم له والكوخ مـــــــــــأواه

يهتز كسرى على كرسيــــه فرقاً          من بأسه وملوك الروم تخشــــاه

سل المعاني عنا إننا عــــــــــرب         شعارنا المجد يهوانا ونهــــــــــواه

هي العــــــروبة لفظ إن نطقت به         فالشرق والضاد والإسلام معنــاه

استرشد الغرب بالماضي فأرشـده        ونحن كان لنا ماض نسينـــــــــاه

إنّا مشينا وراء الغرب نقتبس مـــن      ضيائه فأصابتنا شظــايــــــــــــــاه

بالله سل خلف بحر الروم عن عرب      بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *