إن موضوع حقوق الإنسان، بشكله ومضمونه، وبمنطلقاته وغاياته، موضوع سياسي، وقانوني، واجتماعي، وثقافي، من إنتاج ومعطيات الحضارة الغربية المعاصرة. كما أنه يرجع من حيث النشأة والتأسيس، إلى الثورة الفرنسية التي عملت على إرساء الثالوث المقدس: “المساواة، الأخوة، الحرية”. إذ قبل هذه الثورة، كان الإنسان الأوربي يعاني الظلم والقهر والجهل، وكل ألوان الاستغلال بسبب طغيان الكنيسة، واستبداد الحكام المتواطئين معها.
ولقد عكف رجال القانون والسياسة والفلسفة، بدءا من زمن الثورة الفرنسية، على معالجة موضوع الإنسان وحقوقه، والدفاع عن شخصه وكرامته. فألفت الكتب، ونشرت المقالات، وألقيت الخطب والمحاضرات، وعقدت المجالس والمؤتمرات والندوات، وأبرمت المعاهدات والاتفاقيات، إلى أن وصل موضوع حقوق الإنسان إلى نسخته الأخيرة، ووضعيته النهائية التي عبرت عنها المواثيق الدولية في هيئة الأمم المتحدة.
ومن ناحية أخرى، فإن الإطار الفكري والثقافي والعقدي الذي احتضن هذا الحدث الإنساني، ورعاه ورسم معالمه، هو إطار الفلسفة والعقيدة العلمانية. ذلك لأن الأوربيين، بعد صراع مرير مع الكنيسة طيلة بضعة قرون، أقاموا قطيعة نهائية مع الدين، كأساس ومرجع في السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والتربية، والاجتماع.
ومن هنا، فإن موضوع حقوق الإنسان، يتأصل ويتجذر في أرضية فكرية وفلسفية علمانية محضة. كما أن مركزية الحضارة الغربية وفلسفتها التي تعلي من شأن الإنسان الغربي الأبيض، كان لها أثر عميق في صياغة وتوجيه هذا الموضوع. وبناء على هذه المعطيات البنيوية، فإن غاية “حقوق الإنسان” هي الدفاع عن الإنسان الغربي وعن حقوقه، لا عن حقوق سواه. فعندما يقتل شعب فلسطين، أو العراق، أو سوريا… وتدمر القرى والمدن، فإن ذلك يعني الدفاع عن حقوق الإنسان الغربي المعتدى عليه من قبل هذه الشعوب المسلمة الإرهابية!!
وعندما تتدخل أمريكا في قيم وثقافة ودين المسلمين، وتفرض عليهم العلمانية، فإنها تفعل ذلك دفاعا عن حقوق الإنسان الغربي أيضا، وهكذا…
إن روح هذه العلمانية الخبيثة سرت في كيان المجتمعات الإنسانية؛ ثقافة، وقيما، وتربية، وسلوكا. ولذا فإن البشرية تئن تحت وطأة هذا الشر والكيد والمكر، الذي تحمل لواءه قوى الصهيونية والماسونية، وعبيدهما من الرأسماليين، والحكام، والمسؤولين الظالمين، في العالم أجمع.
ولقد خيمت روح هذا الداء الخبيث على ربوع البلدان الإسلامية، بما في ذلك بلدنا ووطننا العزيز، مستهدفة ديننا، وقيمنا، وهويتنا، وحضارتنا. والمجالات التي تخللتها العلمانية في المغرب كثيرة، سأتناول في مقالي هذا مجالا منها، وهو مجال حقوق الإنسان في المغرب.
قرأت في مقال للكاتب اليساري النقابي محمد حنفي، تحت عنوان “العلمانية وحقوق الإنسان”، المنشور على صفحة الموقع الرئيسي لمؤسسة “الحوار المتمدن”، العدد 2447، 27-11-2008، يحرر فيه كلامه الذي وجهه إلى أعضاء الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، حيث يقول:
” تحية نضالية لجميع الإخوان في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
تحية إلى الإخوان في المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
إننا ونحن نناضل داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، نعتبر أن النضال الحقوقي هو نضال علماني بالدرجة الأولى؛ لأن مرجعية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي هي المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، هي مواثيق علمانية بدون منازع، وتاريخ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، هو تاريخ علماني، وارتباطات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، هي ارتباطات علمانية، وخاصة منها الأحزاب الديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، وهي ارتباطات علمانية، وبدون التصريح بلفظ العلمانية. ولذلك لا نرى في طرح مفهوم العلمانية للنقاش إلا إبرازا لعلمانية حقوق الإنسان، المنتجة لعلمانية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، المنتجة بدورها لعلمانية العلاقة مع الأحزاب الديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، المنتجة بدورها لعلمانية النضال الديمقراطي الهادف إلى علمانية العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، التي بدونها لا يمكن السعي الى علمنة الدولة المغربية.”
لا يخفى على ذي عقل لبيب أن روح هذا النص علمانية، وأن كاتبه مقتنع بالأطروحة العلمانية ومدافع عنها. إنه كاتب ومناضل في مجال “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، حيث يعتبر النضال الحقوقي، نضالا علمانيا بالدرجة الأولى، وذلك “لأن مرجعية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي هي المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، هي مواثيق علمانية بدون منازع”. كما يشير إلى أن “تاريخ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان… تاريخ علماني”. ولهذا فهو يؤكد أن “جمعية حقوق الإنسان المغربية”، لا يسعها إلا أن تكون علمانية، لأنها تستمد روحها من “علمانية حقوق الإنسان”.
“فعلمانية حقوق الإنسان، المنتجة لعلمانية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، المنتجة بدورها لعلمانية العلاقة مع الأحزاب الديمقراطية، والتقدمية، واليسارية، والعمالية، المنتجة بدورها لعلمانية النضال الديمقراطي الهادف إلى علمانية العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، التي بدونها لا يمكن السعي إلى علمنة الدولة المغربية”.
وهكذا يفصح محمد حنفي عن الهدف النهائي لنضال وممارسة “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، الذي هو السعي إلى علمنة الدولة المغربية.
ويقول هذا الكاتب معرفا العلمانية: “العلمانية توجه فكرى علمي سياسي يهدف إلى اعتماد القيم الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والمسلكية، على أنها من إنتاج الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والعلمي، والمعرفي، والحقوقي، والإنساني، والسياسي، وأن الغيب غير منتج لها، وغير متحكم فيها، أو موجه للقيام بها”.
إن كاتبنا المناضل يحافظ في تعريفه على روح العلمانية الأصلية، ويرفض أي لون من ألوان العلمانيات المرنة والمداهنة، التي تتعامل أو تتكيف مع الوضع الاجتماعي والديني القائم. ولذا فهو يدعو، متأسيا بأساتذته العلمانيين الغربيين، إلى فصل الدين عن الدولة؛ اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، حيث يقول في مقاله:
” علينا أن نلح على ضرورة الفصل بين:
1) الديني والاقتصادي، لأن الدين، وانطلاقا من نصوصه المختلفة، يعتبر أن ما ينتجه الإنسان من خيرات مادية، من خلال ممارسة الزراعة، والصناعة، والتجارة، وتقديم مختلف الخدمات، هو رزق من عند الله، ليصير المحرومون من حقوقهم في ذلك الإنتاج، تحت طائلة القدر، فكأن القدر هو الذي يعطي، وهو الذي يأخذ. ولذلك فالفصل بين الديني، والاقتصادي يعتبر مسألة علمانية بالدرجة الأولى.
2) الديني والاجتماعي، لأن الدين يعتبر العلاقات الاجتماعية صياغة دينية، والحقوق الاجتماعية قدرا دينيا، الأمر الذي يترتب عنه كون الممارسة الاجتماعية على مقاس الدين السائد في المجتمع. وهو ما يعني ضرورة سيادة الفصل في المجتمع، أي مجتمع، بين الديني والاجتماعي، حتى تصير العلاقات والقيم الاجتماعية علمانية، ويصير الدين شأنا فرديا، يساهم في تقويم ممارسة الأفراد، دون أن يؤثر ذلك في علمانية المجتمع ككل”.
يتبين من خلال هذا النص، أن محمد حنفي يتبع أساتذته حذو النعل بالنعل، لكي يصل رفقة المناضلين الحقوقيين، إلى النتيجة التي وصل إليها أولئك الأساتذة، وهي: “أن العلمانية ممارسة يومية، تعمل على تحرير الاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، والسياسة من أسر الغيب، مهما كان هذا الغيب، وتجعل من كل ذلك شأنا بشريا، واختيارا حرا، ونزيها للإنسان الذي يصير أمره بيده، بسبب علمنة مجمل العلاقات القائمة في المجتمع، التي تصير مفصولة عن الدين، ووسيلة لتطور مختلف المجالات، ليبقى الدين شأنا فرديا”.
ثم يقول:
“وفي هذا الأفق، لا بد من العمل على:
1) تفكيك منظومة القيم الاقتصادية، التي تعتمد المصدر الغيبي في الحصول على الإنتاج الاقتصادي المستجيب لحاجيات الأفراد، والجماعات، والشعوب، والدول، وإقامة منظومة بديلة، تجعل الإنسان هو مصدر ذلك الإنتاج (…) حتى تزول قيم الغيب، وبصفة نهائية من العلاقات الاقتصادية القائمة في المجتمع.
2) تفكيك منظومة القيم الاجتماعية، التي تحكم العلاقات الاجتماعية، باعتبارها منتوجا غيبيا، ما على الإنسان إلا أن يتقبله، والعمل على تسييد منظومة بديلة، تجعل العلاقات الاجتماعية، علاقات إنسانية بالدرجة الأولى.
3) تفكيك منظومة القيم الثقافية، التي تحكم المسلكية الفردية، والجماعية، باعتبارها قيما ثقافية غيبية، ترتبط بالدين من جهة. وبأدلجة الدين من أخرى، والنضال من أجل تسييد قيم ثقافية بديلة، لا مرجعية فيها إلا للإنسان المنتج لثقافته”.
يستنتج من كلام الكاتب الحقوقي محمد حنفي، أن موضوع حقوق الإنسان هو موضوع علماني قبل أن يكون موضوعا اجتماعيا، أو سياسيا، أو ثقافيا. والروح العلمانية، التي هي جوهره، ينبغي أن تظل مصاحبة له طوال حياته، وإلا فإن هذا الموضوع لن يتحقق أبدا في أرض الواقع.
بيد أن كاتبنا الحقوقي هذا نسي أو تناسى، أن المغرب والبلدان الإسلامية، لها مرجعها القرآن، الذي ينص على حقوق الإنسان مهما كان جنسه أو دينه، بخلاف حقوق الإنسان المؤسسة في الغرب، والتي تدافع عن الإنسان الغربي وحده، كما أشرت وتشير الأحداث والوقائع اليومية.
ثم إن كاتبنا يربط ربطا بنيويا بين العلمانية والدفاع عن الإنسان، والحالة أن العلمانية ليست شرطا لازما لتأسيس هذا الدفاع وممارسته. إذ التاريخ يثبت أن الأديان السماوية؛ اليهودية، المسيحية (في نصوصهما المقدسة الصحيحة)، الإسلام، هي التي أعلنت عن حقوق الإنسان الحقيقية والفطرية، ودعت إلى تكريمه وإقامة كل ما يوفر له الأمن والسعادة. ولنا في تاريخ الإسلام المشرق أعظم مثال على ذلك، بخلاف العلمانية التي نتج عنها ما لا يحصى من الويلات والمصائب والكوارث؛ كالحربين العالميتين، والإرهاب في روسيا والصين، زمن التمكين للنظام الشيوعي في النصف الأول من القرن الماضي، الذي ذهب ضحيته عشرات الملايين من البشر.
كما أن الظلم والقتل، وانتهاك حقوق الإنسان المسلم اليوم، يمارس باسم حقوق الإنسان المؤسسة على العلمانية والمركزية الغربية. ومن الشواهد والأدلة على هذا؛ حرب الإبادة التي تقوم بها روسيا وأمريكا وحلفاؤهما في سوريا، وما وقع في العراق قبل ذلك أيضا من قتل للمدنيين الأبرياء، ودمار للمدن والقرى ظلما وعدوانا، باسم حقوق الإنسان، القائمة على حماية حقوق الانسان الغربي وحده، صاحب الحضارة والمدنية؟!! والديمقراطية؟!! وحقوق الإنسان؟!!
إن مظلة حقوق الإنسان في وطننا العزيز وكل أوطان العالم الإسلامي، تستظل بها المنظمات والجمعيات، التي تسعى إلى إفساد البشرية والقذف بها في مستنقع الرذيلة، مما يسهل عملية تفكيك أركان المجتمع وثوابته؛ كالأسرة، وتفكيك القيم الاجتماعية المتعلقة بالنسب والقرابة، والتكافل الاجتماعي والتراحم والإحسان، وكذا تفكيك القيم السلوكية والأخلاقية الفطرية والحميدة، التي بدونها لن تقوم للمجتمع قائمة، ويصبح هدفا للخراب والأزمات والصراعات على جميع المستويات.
إن الجمعيات التي تدافع في بلادنا، عن الملاحدة، والمثليين، والشواذ، واللوطيين، والحداثيين العلمانيين الذين يحاربون شريعة الله، ويسخرون منها، كل هذه الجمعيات الخبيثة، المؤيدة والمدفوعة من قبل هيئات أجنبية، تستظل بحقوق الإنسان العلمانية، متطاولة على هوية المغاربة ومقدساتهم.