الفرقان بين جهاد عباد الرحمن وفساد أولياء الشيطان محمد أبوالفتح

إن من الخطإ الذريع الإعراضَ عن تدريس الجهاد وأحكامه ومقاصده في الإسلام، وذلك لأمرين:

الأول: أن الإعراض عن هذا الموضوع وعن تدريسه بالمعنى الصحيح الذي جاء به الإسلام، يترك المجال رحبا أمام أصحاب الفكر الشاذ؛ ليدرسوه لأبناء المسلمين كما شاؤوا، في زمان تتعرض فيه الأمة لألوان من الاعتداء.
الثاني: أن استعمال القوة وحدها لا يكفي في القضاء على الفكر التكفيري، بل أثبتت التجربة أن قمع هذا الفكر بالحديد والنار، مع بقاء الشبه التي يحملها ويُرَوِّج لها، يجعله يختفي مؤقتا كما تختفي الأمراض الوراثية في أصلاب الآباء والأجداد، ليظهر من جديد بصورة انتقامية أعنف، بل إن السبب الأول لظهور وانتشار هذا الفكر في هذا القرن هو ما تعرض له الإخوان المسلمون في سجون مصر من العذاب والتنكيل، وذلك أن منهج الإخوان لا يعتني بباب العقيدة، ويعتبر تدريسها مفرِّقا للمسلمين، مما جعله منهجا قابلا لاحتضان كل فكر منحرف عن العقيدة الصحيحة، فخرج من رحمه هذا الولد العاق، وأنتج لنا هذا النتاج الفاسد، ولو كان الفكر التكفيري يُقضى عليه بالقوة لقضت عليه أقوى دول العالم، ولكن الصحيح أن الفكر لا يقضى عليه إلا بالفكر، وأن النار لا تُطفأ بالنار. لأجل هذين السببين وغيرهما من الأسباب رأيت أن أقتحم هذا الموضوع فأقول وبالله التوفيق:

قتل الأنفس لم يكن يوما مقصودا لذاته في الإسلام
إن الله لم يرسل رسوله ولا أنزل كتابه لإزهاق الأرواح بغير حق، ولا لأجل الإفساد في الأرض أو إهلاك الحرث والنسل، وإنما أرسل رسوله رحمة للعالمين، كما قال تعالى مستعملا أسلوب الحصر:”وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”(الأنبياء107)، وأرسله سراجا يضيء للناس طريق الهدى في دياجير الضلال، كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيرا ً”(الأحزاب)، وأنزل كتابه ليحيي به القلوب الميتة؛ ولذلك سماه روحا، فقال سبحانه: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا”(الشورى)، وسمى جبريل روحا لأنه ينـزل بالوحي الذي تحيى به القلوب كما تحيى الأبدان بالأرواح، فقال: “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِين”(الشعراء 193).
ولما كان مقصود هذا الدين هو الإحياء والإبقاء، وليس القتل والإفناء فإنه نهى تعالى عن قتل الأنفس بغير حق فقال:”وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ”( الإسراء33)، بغض النظر عن كون هذه النفس مؤمنة أو كافرة، كما تدل على ذلك قصة موسى عليه الصلاة والسلام، حين قتل رجلا من آل فرعون ثم قال نادما: “هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”، وإذا جاء الناس يسألونه الشفاعة في عرصات القيامة ليُقضى بينهم اعتذر بقوله: “إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري” (أخرجه البخاري)، فالذي يظهر من القصة أن الذي قتله موسى لم يكن مسلما. ومما يدل على تعظيم قتل غير المسلم بغير حق قوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما”(البخاري).
وفي مقابل النهي عن قتل الأنفس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحيائها عن طريق تكثير النسل، بل رغب في إحياء الأرض الميتة فقال: “من أحيا أرضا ميتة فهي له ” (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
فالإسلام جاء داعيا إلى إحياء النفوس والقلوب والأراضي الميتة، ولم يأت آمرا بإزهاق الأرواح ولا بالإفساد في الأرض، ولذلك فإنه لم يأمر بالقتل إلا إذا كان فيه إحياء، كما قال تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة)، فأمر بقتل القاتل قصاصا لأنه يحصل بقتله حياة من بقي بعده، والشريعة جاءت داعية إلى تحصيل المصالح وتكثيرها، وإلى دَرء المفاسد وتقليلها، وعند التزاحم وتعَذُّر دفع المفاسد كلها، فإنها تُدفع أعظم المفاسد بارتكاب أخفها، فالقتل مفسدة لما فيه من تفويت نفس، لكنه يشرع إذا كانت المفسدة الناتجة عن إبقاء تلك النفس أعظم من المفسدة الحاصلة بإزهاقها، فقتل نفس واحدة بحق-كما هو الحال في القصاص- أولى من أن تقتل أنفس كثيرة بغير حق، والمقصود هو أن القتل في الإسلام ليس مقصودا لذاته.

الغاية من تشريع الجهاد
وحتى في الجهاد ليس القتل مقصودا لذاته؛ بل شرع الجهاد أولا دفاعا عن الأنفس حتى لا تقتل بغير حق كما قال تعالى: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير”(الحج)، فالقتل شرع هنا حفاظا على الأنفس المظلومة أن تزهق بغير حق.
شرع الجهاد حفاظا على الدين حتى لا تُستأصل شأفته كما قال تعالى:”وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ”(البقرة193)، فحِفظ الدين مُقَدّم على حفظ النفس، لأن الأنفس إنما خُلقت لإقامة الدين، ولا معنى لبقائها بعد ضياعه، ولذلك قال في الآية قبلها: “وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ”، وفي ذلك إشارة إلى أن القتل ليس مقصودا لذاته وإنما شرع هنا لدفع مفسدة أعظم منه وهي الفتنة في الدين.
وأخيرا شرع الجهاد لإحياء القلوب الميتة بالإسلام، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، كما قال تعالى: “أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” (الأنعام)، كان ميتا: أي كافرا فأحييناه بالإسلام، فالأرض أرض الله، والخلق كلهم مسلمهم وكافرهم مِلكٌ لله، أفلا يكون من حقه تعالى أن يعبد في مُلكه، وأن يطبق شرعه في أرضه، وأن تكون كلمته هي العليا في خلقه.
فهنا أيضا ليس القتل مقصودا لذاته وإنما لما فيه من إحياء القلوب الميتة، وحياتها بالإيمان أولى من حياة الأبدان، لأن بحياتها في الدنيا بالإيمان تحيى الحياة الأبدية الكاملة في الآخرة، وتفوز بالسعادة السرمدية كما قال تعالى: “وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”(العنكبوت) أي: هي الحياة الكاملة.
وإني لأعجب من أعداء الإسلام الذين يطعنون فيه بسبب تشريعه الجهاد ثم يرخصون لأنفسهم أن يقطعوا القارات والبحار ليستعمروا بلدا مسلما بذريعة نشر الديمقراطية بالحديد والنار، وبحجة تحرير شعبه من نظام طالما كانوا يؤيدونه وينصرونه، وليتهم إذ فعلوا ذلك أرشدوا ضالا، أو أمنوا خائفا، أو أقاموا عدلا، لكنهم جمعوا حشفا وسوء كيل. وأعجب من صنيعهم هذا أن ينساق وراءهم في الطعن على الإسلام قوم من بني جلدتنا، ممن يسمى بمحمد وأحمد.
ومما يدل على أن القتل ليس مقصودا في الإسلام، قوله تعالى: “وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”(الأنفال)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: (اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال)، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم..” ( رواه مسلم)، وكان ينهى عن قتل من لا يقاتل من النساء والصبيان، وفي غزوة الحديبية جنح إلى السلم مع المشركين مع ما تضمنه الصلح من الشروط المجحفة.. كل هذا وغيره يؤكد الحقيقة السابقة: أن قتل الأنفس لم يكن يوما مقصودا لذاته في الإسلام.
وفي تقديري أن هذه هي الشبهة التي وقع فيها ابن لادن ومن سار على دربه، فإنهم ظنوا أن القتل مقصود لذاته في الجهاد الذي شرعه الله، لذلك تجدهم يباركون -إن لم يكونوا هم الفاعلين- ما حصل في 11 شتنبر في الولايات المتحدة من قتل 3000 آلاف نفس، من غير أن ينظروا إلى المفاسد العظيمة التي نتجت عن ذلك، والتي من أعظمها استعمار دولتين، ثم ما نتج عن ذلك من فتن راح ضحيتها مئات الألوف، ولازال العراق وأفغانستان يعيشان في ويلاتها إلى هذه الساعة، ولم يتحقق من ورائها إحياء أنفس، ولا إحياء قلوب بالإسلام، بل إزهاق أنفس وتنفير عن الإسلام، فهذا فساد محض والله لا يحب الفساد، قال تعالى: “تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ”( القصص).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *